مجمل الاختلافات والتباينات التي ترتبط بنشوء مختلف النظريات والأفكار في الحقول العلمية والفلسفية والعلوم الإنسانية والأدبية، والتي تدور رحاها بين الفلاسفة والباحثين والمفكرين والنقاد يرجع أصلها بدرجة كبيرة إلى ما يمكن أن أسميه جدلية المعرفة والتاريخ. في هذه المقالة سأحاول توضيح مبررات هذا الربط، والأهمية التي تكمن خلفه خصوصاً للمثقف الباحث وذلك في علاقته بمجمل أفكاره وكتاباته وقناعاته. ولكن قبل الخوض في الحديث عنه، سأبين المقصد من هذه الجدلية. هناك فرق بين مفهوم الجدل كما ورد في الآية الكريمة «وجادلهم بالتي هي أحسن» أي حاورهم وراجعهم كما تشير إلى ذلك بعض التفاسير، أو الجدل بمعنى المخاصمة والمحاججة كما هي في أدبيات علم الكلام الإسلامي، وبين مفهوم الجدلية الذي هو وثيق الصلة بمفاهيم فلسفية غربية، خصوصاً مفهوم الدياليكتيك الذي هو عبارة عن جملة من القوانين تفسر حركة تطور التاريخ، وبالتالي هو حجر الزاوية عند الفلاسفة الماديين في خطاباتهم حول فلسفة التاريخ. وكما هو معلوم تشكَّل هذا المفهوم عند ماركس من خلال فلسفتين متعارضتين: فلسفة هيغل المثالية من جهة، وفلسفة فيورباخ المادية من جهة أخرى. لا نريد أن نسترسل أكثر في التعريف بهذا المفهوم ومدى أهميته والجدل الدائر حوله والاعتراضات التي واجهته عند فلاسفة ما بعد الحداثة. ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو الإشارة، ولو باختصار، إلى الأثر الكبير الذي تركه هذا المفهوم في الدراسات التاريخية عند ماركس والماركسيين، وهذا له دلالة كبرى لأن الاستغناء عن المفهوم أو تهميشه أو تفنيده وعدم الاقتناع بجدواه في دراسة التاريخ لا يعني بصورة أو بأخرى التغافل عن أثره في الواقع التاريخي وانعكاسات هذا الأثر على حركة المجتمع، وسأضرب مثالاً على ذلك. حين اعتقد ماركس أن الأساس الذي يحرك التاريخ هو الصراع الطبقي، جرى لاحقاً تأسيس البروليتاريا وفق هذا المنظور. وعليه تم تأسيس الأحزاب السياسية التي أدارت الصراع ضد الفريق الآخر من الأحزاب الرأسمالية في الغرب والشرق على السواء. ولم تكن الحرب الباردة بين المعسكرين سوى واقع تاريخي يجعلنا نعيد التفكير بجد عن أهمية الصلة بين المعرفة من جهة والتاريخ من جهة أخرى، والأثر الذي يتركه كل منهما على الآخر. ينبغي أن نشير هنا إلى أن ما نعنيه بكلمة التاريخ هي جملة أو منظومة من التصورات والمفاهيم التي يحلل الإنسان من خلالها أحداث التاريخ وبالتالي يؤوله ضمن نسق فلسفي محدد. هذه الصلة التي ندعو للتركيز عليها تفتح الباب على جملة من التساؤلات التي ترتبط بأزمة الثقافة العربية الإسلامية من العمق كأزمة الحوار- على سبيل المثال - أو الحقيقة والاستبداد، وكل هذه المعوقات تنتمي إلى المجال الثقافي بالدرجة الأولى. أول هذه التساؤلات التي تطرح هنا هو: ما العلاقة التي تربط أزمة الحوار كمثال في ثقافتنا العربية الإسلامية بالكشف عن أهمية الصلة بين المعرفة والتاريخ؟ ثمة روابط عديدة يمكن تلمسها من خلال النقاط التالية: أولا - باعتبار الحوار بمفهومه الشامل (الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني والثقافي) جزءاً مشروطاً يدخل في تطور وعينا بالتاريخ وحركة نموه، فإن هذا الاعتبار يؤدي إلى القول بحتمية وجود الحركة، ولكنها حركة لا تتسم بخط تصاعدي له بداية وغاية وهدف كما يقول أصحاب المدرسة التاريخانية، وإنما مجرد حركة لا نعلم بأي اتجاه تذهب وبالتالي لا يمكن التنبؤ بمستقبلها كما يقول كارل بوبر في معرض نقده على المنهج التاريخاني. ثانياً - إذا كان هذا الكلام يصدق على المناهج التي تفسر حركة التاريخ، فهي تنطبق أيضاً على حركة المعرفة. وإذا كان الحوار عبر تاريخه لم يكن سوى شكل من أشكال المعرفة تنقل من جيل إلى جيل ومن مجتمعات إلى أخرى، فإن النتيجة التي نصل إليها تقول: أن قياس درجة الوعي بالتاريخ يرتبط أساساً بتطور المعرفة الذي يرتبط بدوره بحركة الحوار ومدى اتساعه أو ضيقه داخل أي مجتمع. هذه المستويات الثلاثة من التعالق وثيقة الصلة بعضها بعضاً. لكن مثل هذا التعالق ليس مشروطاً بالتراتبية التصاعدية أو التنازلية، وإنما محكومة بالسياق التاريخي الاجتماعي والسياسي والروحي والاقتصادي في لحظة معينة لمجتمع ما. ثالثاً - لذلك من المفارقات الكبرى التي ندعيها وهماً وزيفاً أننا نسعى في ثقافتنا المحلية إلى تأصيل مفهوم الحوار (من ضمن هذا السعي الحوار بين الأديان والطوائف، والحوار من أجل المواطنة، والحوار من أجل الإصلاح، إلى آخره من هذه المقولات) بينما هذا السعي لا يذهب إلى العمق، وإنما يلامس السطوح بدليل افتقارنا إلى أدنى الأدبيات التي تفرزها العلاقة المتلازمة بين المعرفة والتاريخ من جهة والحوار من جهة أخرى. والذي يأتي مبدأ نسبية الحقيقة على رأس إفرازاتها، وكذلك مبدأ الوعي بالحدود الضبابية بين ما هو ذاتي وموضوعي في إنتاج المعرفة. لقد تسبب هذا الفقدان إلى هشاشة في التفكير، والأدهى والأمر إلى ادعاءات زائفة عند البعض لكونهم تنويريين بينما هم جزء من الأيديولوجيا السائدة التي تضيق بجراب الشحاذ ناهيك عن الإنسان بمفهومه المجرد. (يتبع) * ناقد وشاعر.