في الصغر تعلمنا أن فرحة العطاء أكثر سعادة من الأخذ والتملك، وأن الإنسان كلما كان كريما جوادا نسي الناس عيوبه، وأن الإنسانية ليست كالأنانية، حتى كبرنا وما زالت هذه القيم كل يوم تتجذر خاصة في عصرنا المادي الذي لا يعشق ولا يقترب إلا من دروب الكسب والأخذ والتملك، وأن موازين الكرم والبخل تعود أولا إلى صناعة التربية والقيم، لذا أتذكر كلمة رائعة للفيلسوف الفيزيائي جيمس ماكسويل حين قال: "يوجد في هذا العالم فقراء جدا لا يملكون سوى المال"، فهل أصبح المال هو الثروة التي بها مفاتيح السعادة؟ ولعلي هنا أسوق هذه الطرفة والتي يحكى فيها أنه كانت هناك نخلة تثمر كل عام كميات كبيرة من التمر والرطب، وكان صاحب الحديقة يحبها حبا شديدا ويتولاها بالرعاية والاهتمام، وفجأة قالت النخلة لنفسها: لماذا أرهق نفسى وأثمر هذا الرطب ولا أحصل شيئا من هؤلاء البشر غير الرمي بالحجارة، عندها قررت عدم الإثمار وجاء موسم التمر والرطب وهى واقفة كالوتد لا خير فيها ولا ثمر، فقد بخلت بما حباها الله به من نعم على عباد الله، فضاق صاحب البستان ذرعا بها وقرر اجتثاثها والانتفاع بخشبها فى التدفئة فى برد الشتاء، ولقد كتب إيليا أبو ماضى في ذلك قائلا: وظلّت النخلة الحمقاء عارية كأنها وتد فى الأرض أو حجر فلم يطق صاحب البستان رؤيتها فاجتثها فهوت فى النار تستعر من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالحرص ينتحر لذا لم يهمل تراثنا الأدبي تضجره من البخل بعد كتاب الجاحظ، فقد روى العلماء وأفردوا للبخل كتبا مستقلة كما فعل الجاحظ في كتابه "البخلاء"، وجمال الدين بن المبرد الدمشقي في كتابه "إتحاف النبلاء بأخبار وأشعار الكرماء والبخلاء"، وأفرد له آخرون فصولا وأبوابا في كتبهم الموسوعية الشاملة، مثلما صنع ابن قتيبة في كتاب "عيون الأخبار"، وابن عبد ربه في كتاب "العقد الفريد" وغيرهم. ولعل من نوادرهم ما روى أن ولدا قال لأبيه البخيل: "أبصرت في منامي أنك أعطيتني عشرة جنيهات" فأجاب الأب: ادخرها وإياك أن تصرفها!".. هذا ربما كان نموذجا لبعض الآباء الذين يقتّر أحدهم على أهله وولده بحجة القول العامي "احفظ ريالك الأبيض ليومك الأسود". ولعل نظرة قريبة على أثرياء مجتمعنا الذين يخطئ أحدهم أحيانا بعدّ أصفار الملايين التي ربما فاخرت بها البنوك في الداخل والخارج، أو التي لا يعرف الواحد منهم مقدار زكاته، هذا لو أخرجها إحجامه أو شحه في صناعة الخير لنفسه أو لمجتمعه الذي ما زال شبح الفقر أو الحاجة يلاحقه ويحرجه، خاصة بعد تفاقم أزمة النفط أو النكسات المستمرة لسوق الأسهم أو العقار أو لكثير من مشاريع الأمل التي صارت من ركام الألم، والتي أرغمت بخلاء الجيوب - في أعين البعض - أغنياء القلوب على وصمهم بالبخل وهم أكرم الناس. كما أن البخل لدى بعض أفراد مجتمعنا ما زال سببا في توتر العلاقات الزوجية، وسلوكا يؤدي إلى فقدان الحميمية بين الزوجين، بل إلى الجفاف في علاقتهما، وموقدا لحلبات التوتر والصراع الذي كثيرا ما آلمت القضاة والمحامين، فالجاحظ لم يتعرف على شخوص تملك كل شيء وهي لا تستطيع أن تمّد أو تتفضل أو تتكرم بشيء، بالملايين يتكلم ويكلم، ويأمر ويبرم، ويقضي ويحكم وهو في سجل الناس ممن رفضتهم العيون قبل القلوب، وإن الجاحظ وغيره لم يعلموا أن بعض أفراد مجتمعنا يبخل ببذل فضل جاهه، أو علمه، أو وقته، وأخيرا ماله في خدمة دينه أو وطنه، ولم يعلموا عن ذلك المسؤول الذي يتباطأ في توقيع معاملة أو سلفة مالية وكأنها تجتّر من ماله، والعامة تقول لهؤلاء "يا طالب من جهنم براد"، كإشارة يائسة من هؤلاء البخلاء. فهل ساهم أثرياؤنا - كل في مدينته - بإيجاد نوافذ ومشاريع تنموية تنقذ الشباب والمجتمع من أسر البطالة؟ وهل فكروا بأن الإسلام حريص على تحريك الأموال وبذل منافعها بدل تكديسها، وضرب مشاعر الناس بسياط بريقها؟ وصدق الله: "ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه والله الغني وأنتم الفقراء". ولن أنسى أن أسجل صورة من البخل لم يعرفها الجاحظ، وهي التي تحيط بالطلاب والذي لا يجد الوقت ببذل خيره وعلمه وخبراته على إخوانه، فأنانيته وحبه لذاته وإعجابه بنفسه سجنه بعيدا عن حب الآخرين له وبسط الندى لمن يستطيع، ولقد سئل أحد الحكماء عن أقبح البخل فقال: كريم تحدث بإحسانه لمن أحسن إليه. كلي أمل أن يسجل تاريخنا السعودي رديفا عن كتاب البخلاء، اسمه "الكرماء" يكون وثيقة يتأسى الأجيال بها.