ليس سهلاً على نفسك أن تسمع ابناً يدعو على والده بالموت، وكانت تلك العبارات التي أطلقها ذلك الشاب كالصاعقة على أذني المذهولة، وأرجعتني إلى ذكرى مشابهة عندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة كان لي زميل يعاني أشد المعاناة من بخل أبيه، وكان هذا الأب يذهب لقصور الأفراح في كل ليلة من دون دعوة من أجل أن يحظى بوجبة دسمة بدون فواتير، وكان زميلي يقول لأصدقائه المقربين: (الله ياخذ عمره دايم يفشلنا). البخيل اتخذ نمطاً سيئاً لحياته يكون فيها فقيراً على الدوام، ومحروماً بين الأنام، فهو باع نفسه للمال بمحض إرادته وصار عبداً مملوكاً للريال بعد أن كان هو من يملك هذا الريال. حالة الفقر الاختيارية التي قررها البخيل لنفسه تجعله «كائنا ناقص المتعة»، وكما يقول الأتراك في حكمهم: (البخيل كالحمار الذي يأكل التبن والذهب من فوق ظهره)، ويذهب جوفينال إلى أبعد من هذا عندما يتهمه بنوع من أنواع الجنون بمقولته الشهيرة: (قمة الجنون أن يعيش المرء فقيراً ليموت غنياً)، وعندما سئل الأديب البلجيكي إريك إيمانويل عن أبخل البخلاء قال للسائل: (إنه عمي، فقد كان يمسح حذاءه على ممسحة جاره ثم يدخل بيته، وقد نجحت خطته إذ مات وبقيت ممسحته جديدة). البخيل تسيطر عليه فكرة «المستقبل»، ويعتبر المقولة التي تقول: (احتفظ بالقرش الأبيض لليوم الأسود) هي تاج الحكمة، ولم يدرك أن حاضره قاتم ومستقبله هو نسخة من حاضره، وكما يقول الفرنسيون: (البخيل يفقد كل شيء في محاولته كسب كل شيء)، فالبخيل يهرب إلى الفقر من الفقر. «السعادة» لا يحس بها البخيل لأنه لا يتذوق «لذة العطاء»، ولا يدرك أن سعادة إنفاق المال أكثر من سعادة جمعه، ويتوقع أن «لذة الإيداع» في الحساب المصرفي هي قمة الملذات وسيدتها. أسوأ الصفات التي تكرهها نساء العالم في الرجل هي «البخل»، وعائلة البخيل هي الأكثر تضرراً من تقتيره، والحكماء كانوا يقولون: (جود الرجل يحببه عند أعدائه، وبخل الرجل يبغضه عند أولاده)، والبخل له انعكاساته السلبية على الأبناء والبنات في محيطهم. متى يدرك البخلاء أن الأغنياء في المقبرة فقراء، وأن الدنيا والآخرة تكره البخيل، وابن القيم الجوزيه كان يقول: (البخيل رجل لا يؤجر على فقره). البخل لا ينحصر في البخل المادي، فالبخل المعنوي هو أحد الصور للبخل، والبخل في العواطف هو أشدها مضاضة، لأن أجود ما يقدمه الإنسان للآخرين هو مداد قلبه، وكرم الحب والمودة هو أفخر أنواع الكرم. يصيبنا داء التبذير عند الانتقاد والشجب، وعند المدح والثناء تنزل بنا عاهات البخل التي تشل ألسنتنا، فالألسن الشحيحة تثقل عليها كلمات الثناء، وقد تصيبنا نوبات بخل في بعض سلوكياتنا التواصلية مع الآخرين حتى لو لم نكن بخلاء مادياً. نبينا الكريم استعاذ من البخل وذمه في أكثر من موضع، ومن أراد أن يستمتع بالحياة فليقتد بالكريم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، ومن الوصفات غير المضمونة في علاج البخل قراءة نوادر الجاحظ في كتابه البخلاء، أو العيش مع المسرحية العالمية «البخيل» للأديب الفرنسي موليير، فالثقافات المختلفة كلها تجمع على أن البخل قيمة وضيعة تكسبك «سوء السمعة».