كثير منا بذل من الجهد في شهر كامل ما حقق له تغييرا أفضل في سلوكه وعلاقاته، وإحراز التقدم في تزكية نفسه، لكن بعد انتهاء الشهر عاد بعضهم إلى سالف عهده من اقتراف المعاصي أو إهمال الواجبات، وهذه انتكاسة خطيرة لها عواقبها الوخيمة على صاحبها والمحيط الذي يعيش فيه. نفهم أن نكون أقل نشاطا أو انجازا بعد بداية قوية فهذه طبائع الأشياء، لكن السقوط والانتكاس خسارة وهلاك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً،(نشاطا وحماسا) وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ. (ضعفاً وتراخيا)، فَمَنْ كَانَتْ شِرَّتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ). رواه ابن حبان، وفي رواية: ( إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلا تَعُدُّوهُ) رواه الترمذي. والحديث يعلمنا كيف نتعامل مع لحظات الفتور والتراخي بعد فورة النشاط، وهي أن نلتزم بالسنة في اعتدالها والتوسط في العمل وتجنب طرفي إفراط الشرة وتفريط الفترة. فمنهج السنة يعبر عنه الحديث الشريف: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» رواه البخاري. أما المبالغة في الأعمال والطاعات طلبا للشهرة ليكون مشارا إليه بالأصابع فليس له من الأجر نصيب لكونه مرائيا. وهناك وسائل أربع تساعدنا في مواصلة التقدم وتجنب الإصابة بالانتكاسة وهي: 1-الدعاء بالثبات: فهذا يعني أن لديك رغبة في الثبات على الطريق، أو قل إنك وضعت لك هدفا عبرت عنه بصيغة تعبدية هي الدعاء ليكتسب الهدف قوة استمداد العون من الله. علمنا ربنا أن نقول: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} سورة آل عمران : 8 وعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقول: (اللهم إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبَاً سَلِيمَاً، وَلِسَانَاً صَادِقَاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)). ووصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء بالكنز فيقول لشداد بن أوس ولصحابته رضي الله عنهم: ((يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فاكنز هؤلاء الكلمات)) وفي رواية ((إذا اكتنز الناس الدنانير والدراهم، فاكتنزوا الكلمات...)). وعن أنس رضي الله عنه قال كانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) رواه الترمذي. 2-تلاوة ما تيسر من القرآن دوريا، فهو يهدي للتي هي أقوم، دليل رحلتك لتمضي على المسار الصحيح حتى لا تنزلق الأقدام في سبل متفرقة . قال الله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل: 102. إذا أردت الارتقاء فعليك بتلاوة القرآن ،كما في الحديث: (( يُقَالُ لِصاحبِ الْقُرَآنِ: اقْرأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإنَّ منْزِلَتَكَ عِنْد آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا)) رواه أبو داود 3- المبادرة: السبق إلى الفعل دون تقاعس أو تسويف خير وسيلة لدرء الفتن المحتملة وفي الحديث :( بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل ) رواه مسلم. ونبهنا القرآن إلى تأثير الفعل في تثبيت صاحبه في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) النساء:66. 4-صحبة الأخيار: قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الكهف: 28 وتبدو قيمة الصحبة الصالحة في قول النبوة (( الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ )) سنن أبي داود . هذه المرآة الصادقة تساعدنا على تفقّد نقاط قوتنا وضعفنا فنتداركها، ولذلك علينا أن نلقي نظرة فاحصة على من نصاحبهم و(المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)..رواه أحمد. * أستاذ مشارك بجامعة الدمام