هم أقوام معروفون في كل زمان ومكان، لا تخلو منهم الأرض على مر التاريخ، يمتطون الأحداث وتغاير الزمن؛ لنيل أكبر قدر من المصالح الشخصية والفرص التي قد لا تعود، يبذلون الجهد الجهيد في سبيل الحظوة والمكانة دون أهلية ذاتية تمكنهم من الوصول إلى مبتغاهم مهما كان صغيراً أو متواضعاً. حكاية التزلف قد تبدأ عند الإنسان منذ نعومة أظفاره ومنذ سني وعيه الأولى، ويدركها جميع الأباء والأمهات خصوصاً في تلك العوائل التي تحوي أطفالاً ذوي أعمار متقاربة، حيث يسعى بعض الأطفال بالتودد لآبائهم عبر المقارنة بينهم وبين أقرانهم أو الطعن في تصرفات باقي الأخوة أو أحدهم. وتستمر حكاية التزلف مع الإنسان شيئاً فشيئاً، ففي المدرسة يسعى بعض الأولاد بالتزلف إلى المدرسين ليس بمستواهم الدراسي وتحصيلهم العلمي العالي، بل عبر الوشاية بأحد الزملاء أو حتى الطعن في مدرس آخر. وهكذا ينشأ المتزلف ويتطور وتتطور أساليبه حتى يصبح رجلاً بالغاً راشداً عاقلاً! قد يغيب عن بال المتزلف أحياناً أن "المتزلف إليه" -والذي قد يكون الأب أو المدرس أو الرئيس في العمل أو حتى الأعلى منصبا- لا يغيب عن ذهنه ولا تخونه فطنته بتمييز التزلف وما ينطوي عليه من خداع وكذب واتهام باطل واستغفال، وكثيراً ما يغفل المتزلفون عن هذا الأمر الذي يعود عليهم بالخيبة والندم. إن من أبشع أوجه التزلف وأشدها قبحاً هو التزلف الديني أو التزلف بالدين والذي قد يسميه البعض "المتاجرة بالدين"، وسبب قبحه وشناعته هو أن المتزلف أو الجماعة المتزلفة تمتطي دين الله المقدس النقي لنيل مصالحها الفردية الفئوية والتي قد يكون بعضها متعارضاً مع الدين ذاته والفطرة والخُلق الإنساني العام والعدل، ولعل أشد الناس استخفافاً بالله هم المتزلفون بالدين؛ كونهم أكثر الناس اطلاعاً على التعاليم الدينية وإلماماً بها ومعرفة بالنصوص والأحكام الفقهية، ومع هذا كله يستخدمون الدين كوسيلة لا أكثر ولا أقل لتحقيق غاياتهم ولا يرمش لهم جفن وهم يطوعون آيات الله وأحكامه وفق أهوائهم ويراهنون على مستوى العاطفة الدينية العالية لدى المجتمعات المحافظة؛ لتحقيق غاياتهم ويسوقون بضائعهم ويروجون لها عبر زرع حاجة أو اعتقاد لدى الناس والمجتمعات بوجود خطر معين عبر الطعن في الآخرين أو حتى صنع عدو وهمي، ومن ثم يصورون أنفسهم بصورة المخلص والمنقذ الذي يجتث المجتمعات من الظلمات إلى النور ومن المخاطر إلى بر الأمان. استخدام الدين والتزلف به قديم هو الآخر قدم التاريخ، وقد عانت الحضارات البشرية منذ زمن نبينا آدم عليه السلام وإلى زمننا هذا منه، ولم يدخل التزلف بالدين والمتاجرة به في قوم إلا وأفسد حالهم وجمدهم عن التطور والرقي، والتاريخ خير شاهد على مصير أولئك المتزلفين والمتاجرين الذين لم يبنوا حضارة فكرية تصمد أمام المنطق الذي تكون له الغلبة في الأخير على الترهات التي ينسجها المتاجرون البائسون. * كاتب