من أعظم ما يمكن أن يختبره المرء في هذه الحياة هو الفقد، وبقدر ما هو مؤلم وعميق سيكون مفصليا في حياتك، فحياتك بعد الفقد ليست كحياتك قبله، لأنك بعده لست أنت قبله. لا يضمن لك أحد من ستكون، ولا مدى التغيير الذي سيحدث لك في علاقاتك ولا في شخصيتك ولا في رؤيتك للحياة، لكن من المؤكد أنك ستخرج منه مختلفا عما كنت عليه. أن تفقد قريبا.. أما أو أبا.. أن تفقد صديقا، أن تفقد مدينة، أن تفقد وطنا، أن تفقد ذاكرة مليئة بالحياة.. أن تفقد قدوة أو سندا.. أن تفقد ذاتك حين يصبح الموت وشيكا. صدرت في الأيام القليلة الماضية رواية (خرائط التيه) لبثينة العيسى، تحكي قصة عائلة كويتية فقدت ابنها في الحج، أب وأم يفقدان طفلهما ذي السبع السنوات.. ليس من السهل أن تعيش تجربة لم تحدث لك، تجربة الفقد والعجز ومواجهة الاحتمالات كلها في لحظة واحدة، وبشكل مستمر لأيام طويلة.. أن يدخل العقل في تيه ليس له أول ولا آخر، تماما كمن يتيه على الخارطة.. ليس سهلا على الروائي أن يقنعك بالمعنى الذي عثر عليه، وفي ظني أنه من الصعب جدا على الروائي أن يتعمق في معنى ما لو لم يعش تجربة مشابهة على الأقل. ما يثير الإعجاب في (خرائط التيه) أن الروائية تبحث في أعماق الشخصيات بحذر، تتلمس بعناية ما يشعر به كل من الأب والأم، على اختلاف ردود الفعل منهما، ثم الحذر يكون عندها أشد في تلمس المعنى عند الطفل الصغير في كل ما يعانيه ويقاسيه. ليس سهلا أن تتقمص شخصية وتبحث في أعماقها عن شعورها، لذلك فالكتابة النظرية عن المعاناة ليست كمعايشتها، وإذا أراد الروائي أن يفعل ذلك من خلال خلقه لحيوات مختلفة وشخصيات متنوعة فعليه أن يكون بارعا وحذرا، وأن يتحلى بالذكاء الوجودي إن صح التعبير. في مكان آخر تتحدث الرواية عن الخاطفين، وتظهر البراعة هنا في القدرة على أنسنة المجرمين بالقدر المقبول والمعقول. لكن الأمور لا تسير حسب المخطط له، فتجري للطفل أحداث مؤلمة، أو بالأحرى مؤلمة جدا. تتنقل الرواية عبر أكثر من مكان، مكة، عسير، جيزان، سيناء. لا تجد في الرواية حركة في الأزمنة وتبدلا فيها بقدر ما تجده في الأمكنة، وبرأيي أن هذا أريح للقارئ وأكثر متعة له. السؤال الملح في الرواية هو عن علاقة السماء بكل ما يحدث، إنه السؤال الأول في المعاناة عند أغلب الناس، إننا نعاني كثيرا، ونطلب تدخل السماء. فكيف ستتدخل، وهل تتدخل دائما بالفعل، وكيف سيكون ذلك، هل عبر القوانين أم بتجاوزها، وما الضير من تجاوزها إن كان ذلك سيخفف من المعاناة، إننا بحاجة لمصادفة بسيطة كي نعثر على الطفل المفقود، هذا السؤال تتناوله بثينة بحذر واحترام بالغ. سيواجه المرء هذا السؤال الوجودي عند تجربة عميقة كهذه، وستختلف الإجابات وتبعا لها ستختلف الخيارات، لذلك لن يعود كل شيء كما كان في أوقات الرخاء. يتردد الحديث عن الرجل الوطواط كثيرا، تلك العلامة على ملابس الطفل، والحديث عن فيلم كريستيان بيل، في مستوى جميل من الرمزية دون رغبة في التصريح كما أعتقد كقارئ. اعاني كثيرا في الروايات مما اسميه ب(مساحات الملل)، تلك الصفحات التي تتمنى لو تتجاوزها سريعا، ولا تدري سر إطالة الروائي فيها، قد تكون أوصافا، أو حوارات مطولة أو أحداثا جانبية. دائما أحاول تمييزها بعد الانتهاء من أي عمل فني. المدهش في (خرائط التيه) أن مساحات الملل تكاد تكون معدومة منها، قدرة بثينة على شد انتباهك والانتقال بك من حدث لآخر، والارتقاء في المعنى والتعمق فيه تستحق الإشادة. وبخلاف كثير من الأعمال الفنية فإن الثلث الأخير من الرواية بعث الحيوية فيها بشكل أكبر، فبالإضافة للمعاني الوجودية للشخصيات والحدث تضاف الآن قضية معاصرة أخرى تتعلق بالاتجار بالبشر، تعتمد على حقائق ومعلومات، وتتساءل وأنت تقرأ أين الخيال هنا وأين الواقع. أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد