نحتاج أحيانا الهروب بعيدا ولو للحظات عن الشحن الاعلامي اليومي الذي أصبح يحاصرنا ويتابعنا كظلنا أينما تحركنا كضرب وقتل وسرق وهرب واعتداء، ولأن ميزان ضغط الدم لم يعد يتحمل بامكاناته المحدودة تجاوزات قياسية إضافية فلا بد من المعالجة الذاتية واستعمال صمامات التخفيض حفاظا على الصحة العامة. أحيانا تطالعنا الصحف الورقية والرقمية بخبر مفاده أن عصابة مكونة من ثمانية أشخاص قامت بالسطو على محل تجاري تحت تهديد السلاح واشهاره على البائعين والمتسوقين وبحمد الله تم القبض عليهم جميعا في وقت وجيز أو قياسي وبإحالتهم إلى الجهات القضائية المختصة حكمت عليهم المحكمة بأحكام تصل إلى ثمانين عاما، ومن الوهلة الأولى كرد فعل بعد قراءة العنوان سترتفع كل الحواجب استغرابا للمدة الطويلة التي لم نعهدها في مثل تلك حالات ولكن عند الغوص والتعمق في تفصيل الخبر تجد أن المدة لا تتجاوز العشر سنوات لكل واحد وقد تكون أقل من ذلك بكثير، ولكن تم جمعها بقدرة قادر واستأذن الرياضيين وأقول إنها لا تجمع بهذه الطريقة وإذا أريد المبالغة والتشويق فيمكن الإشارة إلى محكومية أعلاهم فنقول تصل إلى عشر سنوات مثلا. وقد تخيلت أن شخصا يحادث آخر ويقول له اليوم شهدت حادثة اصيب فيها أكثر من أربعين شخصا، ويبادره المستمع متسائلا كم تتراوح أعمارهم فيجيبه ما بين الألف والألف واربعمائة، فينعقد لسان المستمع المسكين ويتصلب في مكانه وتزداد حاله سوءا عندما ينشغل بالتفكير في أناس طالت أعمارهم في هذا الزمان وتجاوزت الألف ويحلم بحالهم وهو يعلم يقينا أن أكبر معمرة في العالم فارقت الحياة قبل فترة بسيطة ولم تتواصل أنفاسها لأكثر من عشرة أعوام بعد المئة، وهذا كله بسبب الجمع العشوائي للأرقام أي الجمع بدون تفكير. قال شكسبير عندما تتحدث إلى الآخرين فإنك تعد هذا نصحا، ولكن إذا ما تحدثوا هم إليك حول ما يفيدك فإنك تعد الأمر تدخلا في شئونك الشخصية. انتشار الفساد اللفظي أو الإسفاف وتراجع بعض القيم والموروثات الاجتماعية وحتى الدينية أصبح مظهرا واضحا للعيان في كيان المجتمع، حتى أصبح الفرد ينصت إلى حكاوي الفساد والألفاظ النابية والمصطلحات المتدنية ولا تحرك فيه ساكنا وكأنها لا تعنيه أو لا تستطيع التسرب إلى داره، معتقدا أن ابتعاده غير مبال يجنب أهله الانزلاق إلى الهوة، وآخرون يسعدون لأنهم جزء من هذا الخواء غير مبالين بما يصيب النسيج الاجتماعى من تفكك وانحراف وانسداد لقنوات التعايش بمبدأ احترام مشاعر الآخرين. تلك حالنا مع التقدم التكنولوجي وزائر حط رحاله في بيوتنا ومكاتبنا وجيوبنا وحقائبنا يعنى كما قال المتنبي (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي .. وأسمعت كلماتي من به صمم) وتوحد الناس كأنهم في صفوف دراسة يبحلقون ويسمعون في كل شيء يستنقذونه من هواتفهم المحمولة وكثرة الدق تلين الحديد. وليس بالإمكان أن نعود إلى ما كان عليه آباؤنا واجدادنا عندما كانت كلمة لا تعتبر جريمة وإذا سمعها الجد أو الأب وبدون أي حاجة لمعرفة السبب الذي من أجله قيلت يقيم لها الدنيا ولا يقعدها مما يعني أن البذاءة كالردة. قيل إن شحاتا كان يجلس في جانب الطريق رافعا يده للمارة ولم يعبروه ولم يعطوه وغلبه النعاس ونام فرأى نفس المشهد في منامه انه جالس رافعا يده ووضع أحد المارة نصف ريال على يده ولكنه لم يقبل نصف الريال وطلب ريالا كاملا، وفي هذه اللحظة صحا من غفوته ووجد يده ممدودة وليس بها شيء فأغمض عينيه مرة أخرى وقال خلاص هات نصف الريال. وليست هذه دعوة لقبول نصف القيم ونصف النخوة ونصف الشهامة ونصف الحلال ونصف الاحترام ولكن الحقيقة ما لم نستطع أن نجمعه كاملا دفعة واحدة فلنلتقطه التقاطا حبة حبة، وسنجد يوما السلة ممتلئة بالخير حتى آخرها وما علينا إلا أن نحافظ على ما اقتطفناه. ودائما ما يحضرني حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام عن آخر الزمان حيث يصبح القابض على دينه كالقابض على جمرة، وحقيقة إننا وسط خضم متباعد الشطين وعلينا أن نصارع الأمواج حتى لا نغرق وبس.