إن هناك الكثير من المشاكل التي يتحدد خطرها في نطاق الفرد والاسرة، والبعض منها يمتد ليشمل كل شؤون الحياة، وذلك حين تدمّر البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، ومن أخطر هذه المشاكل، مشكلة الكذب التي لم تعد ذنبا تقتصر مخاطره على الكاذب نفسه، بل هي مشكلة تشغل حيزا كبيرا في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتملأ رقعة واسعة في بنية هذه الحياة. إن الواقع الاجتماعي في عصرنا يتحرك بشكل غالب باتجاه خدمة ذاته وأنانيته، وتحقيق مصالحه ومطامعه، وليس باتجاه مصالح قيمية أو دينية، رغم أن كثيرا من أفراده يصلون ويصومون ويؤدون الفروض ويلتزمون بها، بشرط ألا تؤثر على تقاليدهم وأوضاعهم الاجتماعية، ومصالحهم الاقتصادية والشخصية. لذلك أصبحت مشكلة الكذب مشكلة حرفة يومية، نتعايش معها في صميم هذا الواقع وعلاقاته، من خلال الأسرة ابتدأ، فإن أكثر أبناء مجتمعنا تعلموا الكذب من خلال الضغوط الأسرية، والعلاقات المتأزمة فيما بينها. فترى الأب يكذب على ولده والعكس، والزوج على زوجته والعكس، والمعلم على طلابه والعكس، وهكذا تفشت ظاهرة الكذب والالتواء في السلوك، عوضا عن الصدق، وتعميم المفاهيم الدينية والقيم الروحية والإنسانية، لتصبح الوسيلة التي تحرك الحلول للمشكلات، وتوجه العلاقات أفراد الأسرة والمجتمع ومؤسساته، رغم تفاهة أسباب هذا الخطأ في أغلب الأحيان، حتى أصبحت ظاهرة الكذب جزءاً من الحياة. الأمر الذي انعكست آثاره على العلاقات، وعلى الأخلاق الاجتماعية العامة، فأصبحت الأخلاق دوما في دائرة مأزومة بالشكوك والظنون وانحسار الثقة، والكذب والتحريف والمراوغة التي تؤثر على شخصية الفرد فتجعله يحمل دوافع دنيئة في نفس الكاذب، ويتولد عن ذلك نتائج سيئة على البيئية الاجتماعية، رغم أن الدين شدد على الذين يتحركون بالكذب في الناس قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما). فالآية فيها دعوة رسول الله إلى رد الكذب وألا يفرق في الحكم بالحق بين المسلم وغير المسلم، وهذا أرقى صور العدل والصدق. وفي سياق علاج نفس الموقف قال تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ). إن الكذب عندما يقوض موقعا أو مكانة إنسان فإنه يقوض موقفا قيميا رساليا، تخسر به الأمة قيمة من قيم الحياة، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». متفق عليه. إن لكل واقع اجتماعي طابعا معيّنا أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وهكذا يخضع الواقع للكثير من الظواهر والتفاعلات والمؤثرات. فهناك من تدفعهم مصالحهم ومنافعهم الذاتية، ليتحرّكوا باتجاه تزوير الواقع وإرباكه، فيحدثون الناس عن هذا الواقع أو ذاك، بخلاف الصورة الحقيقية لهذا الواقع، لإعطاء صورة مزورة. ولا شك في أن هذا النوع من تحريف الواقع، يشكل خطرا على أوضاع المجتمعات، ويهدد استقرار الأمم والشعوب، من أجل تحقيق مصالح معينة. وهذا النوع من الكذب، يتحرك به صاحبه باتجاه التزوير والتحريف والتزييف للحقائق، بهدف إغواء الناس وإضلالهم عن سبيل الحق، والفطرة والقيم الإنسانية، التي لا تنسجم مع الباطل، وترفضه كل الرفض، وأهل الباطل الذين تملي عليهم ذواتهم، أن يعيشوا لمصالحهم المادية والجاهية والسلطوية، يتحركون في الناس بالكذب على الله ورسوله، وتزيين الباطل بثوب الحق ليقبله الناس، قال تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمِين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ) فهلا نعي قيمة الصدق قولا وعملا؟. * الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة