على الرغم من أن مبحث «النفس» في القرآن الكريم مبحث أصيل، إلا أن النسق الاجتماعي لهذه الأمة المسلمة قد استسلم لكل أنواع الرفض ل «علم النفس»، ووُصم الدارسون والقارئون لهذا النوع من العلم بأبشع الأوصاف والسخريات، وصار أي شخص يملك مهارة التفكير والاستقلالية الفكرية يوصم بأنه «نفسية»! كما يسمونه، ولا يمكن الاستفادة من سُبَّة «النفسية» إلا في حالة واحدة، وهي حالة الإقدام على جريمة ما، فإن ذوي المجرم يسعون بكل طريقة كانت لإثبات: أن الذي اقترف الجريمة هو مريض نفسياً! والأدهى من ذلك: أن التنمية البشرية لم تولِ العلوم النفسية والاجتماعية أي ميزة تذكر، لا في التعليم، ولا في الوظائف المناسبة، وأغلب من درس هذين العلمين هم بلا وظائف جيدة في الغالب، وبلا وظائف في نفس التخصص. الدراسات النفسية الجادة تعزز القيمة العقلية، والتفكير الصحيح للمجتمع، وتساهم في بناء الإنسان الواعي، ولكن إذا كان المجتمع يرتهن للغرائز والعواطف والأوهام والأساطير والعين وغيرها في تعاملاته مع الآخرين، فلن تجدي تلك الدراسات فيه نفعاً! بل إن الأوهام التي تعيش في الذهنية الاجتماعية لها من يصنعها، ويروج لها، ويحرسها بصناعة الأدلة والتأويلات واستجلاب أي مقدس يدعم من هذه المسألة! وليس من سبيل لفك الأوهام الاجتماعية إلا بالتعليم الذاتي، والسبب: لأن التعليم الرسمي قَصُر عن تقديم مهارات التفكير، وابتعد عن تنمية «الفرد» بوصفه حراً وعقلاً ومكلفاً، وانصاع لمُسايرة «الوهم الاجتماعي» في عاداته وتقاليده، وصار التعليم الرسمي متخصصاً في منح الشهادات واعتمادها، وسن الاختبارات واستغلالها، وجعل من المعرفة أضحوكة ووسيلة رخيصة في الحفظ والتلقي، وليس في الفهم والابتكار وإعادة صياغة الحياة ومنتجاتها. بالأمس القريب استمعت لتهديد أحد وزراء التعليم العرب بأنه لن يقبل بتوظيف المعلمين الذين لا يفرقون بين بعض الامور الفقهية! وأنا لست بصدد مناقشة هذا الوزير فيما هدد به وتوعد، لأن الموضوع سينفتح على مباحث وإشكاليات عميقة في «نظرية التلقي» و«قراءة التراث»! ولكن تهديده يدل على نمطيته في التفكير السلطوي، والقرار السلطوي، وخضوعه لبرمجة ثقافية وتاريخية وأنساق معرفية بعيدة عن ما استجد في القرن الواحد والعشرين من مهارات التعليم، وتبادل المعرفة وابتكاراتها على كافة المستويات، ولا يزال هذا الوزير يقيم الاختبارات للمعلمين الجدد ليرى من يحفظ جيداً!! ولم يقدم اختباراته بناءً على من يعمل بطريقة وبابتكار فني وعلمي وتربوي! والسؤال المهم: كيف يمكن أن تخضع «العلوم والمعارف الشرعية» للتجديد والابتكار وإعادة القراءة بآليات القرن الجديد، ولدينا مثل هذا الوزير «النفسية» الذي يظن أنه بهذا العمل سيحمى المقدس الديني! بينما هو يجني على «الإنسان» الذي نزل المقدس من أجل سعادته والاعتناء بحياته، وعمل الوزير هذا هو رمي بالإنسان في بطالة الشارع! بناءً على رؤية ثقافية لا تخلو من برمجة نفسية مضمرة! ولن نكتشف هذا الأمر لأن المختبر النفسي والبحثي ليس له وجود في عالمنا العربي، ويبقى «المتسلطون» يوهمون الناس بأنكم تخفقون في حق الوطن وحق المقدس الديني لأنكم لا تحفظون دروسنا جيداً، ولا تتجاوزون الاختبارات التي وضعناها لكم! إن ضرب المثل بالمسألة التعليمية وإشكالياتها في «المباحث النفسية» هو غيض من فيض أمام عدد هائل من البرامج التنموية المختلفة التي تُمرر بناءً على أفكار وأهواء شخصية وحزبية تعزِز من فكرة: أن الناس لا يحفظون ولا يفهمون ونحن من سيدفعهم لما نريده، أي «ثقافة القطيع»، وما دام الوعي «العلمي النفسي» و«العلمي الاجتماعي» بمنأى عن الحياة التنموية فأي معرفة وحياة سنعيشها؟ * باحث في الدراسات الثقافية