إن نقد ومناقشة كتب رواية الحديث نقدا علميا سندا ومتنا بما فيها الصحيحان، فيه تعزيز لمنهجية التثبت في الرواية، وتعزيز لمصداقية السنن الثابتة ودرايتها، وذلك لن يؤثر على مكانة الصحيحين بل يرفع مكانتهما ويؤسس رؤية نقدية ناضجة، بعيدة عن التقديس لاجتهاد بشري، يرد عليه الصواب والخطأ، إذ ليس هناك اجتهاد بشري معصوم، ولقد بذل كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين المحققين جهودا كبيرة في نقدهما منثورة في معظم كتب الشروح، كما ألفت كتب متخصصة في نقد ومناقشة ما جاء فيهما وكشف ما فيهما من خلل أو لبس، ومن أهم تلك الكتب كتاب "الإلزامات والتتبع" للحافظ الدارقطني، وكتاب "علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم" لأبي الفضل بن عمار، وكتاب "تقييد المهمل وتمييز المشكل" لأبي علي الغساني، وكتاب "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأسانيد المقطوعة" للحافظ رشيد الدين العطار، ومنها كتب الجرح والتعديل وبخاصة ضعفاء العُقَيْلي، فهذه الكتب تبرز أهميتها في نقد صحيح مسلم أكثر من صحيح البخاري، كما استوعب ابن حجر معظم الانتقادات على صحيح البخاري في الفتح، بالإضافة لكتب علل الحديث وكتب المحققين للحديث على مر القرون. إن زعم بعض المتأخرين إجماع جميع علماء الأمة على صحة جميع ما أخرجه البخاري ومسلم فيه مبالغة غير مسلمة، وإنما درج كثير من العلماء على ترداد ذلك حتى قال أحمد شاكر في تعليقاته على مختصر علوم الحديث لابن كثير: الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم، وتبعهم على بصيرة من الأمر: أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف. وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه. وفي هذا مبالغة والحق أن علماء الأمة اتفقوا على تلقي الصحيحين بالقبول في الجملة لا التفصيل هذا ما نقله الحفاظ الكبار وتداولوه، فجاء بعدهم فبالغ في مقالتهم، وأطلق القول بأن هذا الإجماع شاملٌ لكل حرفٍ أخرجه البخاري ومسلم بلا استثناء، وضللوا من خالفهم في ذلك، وهو كلام مردود، لأن في الصحيحين أحاديث ضعفها محدثون متقدمون كثر، منهم : أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو داود السجستاني والبخاري نفسه (ضعف حديثاً عند مسلم) وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو عيسى الترمذي والعقيلي والنسائي وأبو علي النيسابوري وأبو بكر الإسماعيلي وأبو نعيم الأصبهاني وأبو الحسن الدارقطني وابن مندة والبيهقي والعطار والغساني الجياني وأبو الفضل الهروي وابن الجوزي وابن حزم وابن عبد البر وابن تيمية وابن القيم والألباني وآخرون، وهذا يقطع بأن ذلك الإجماع المحكي محمول على تلقيهما بالقبول في الجملة وليس على التفصيل، وهذا لا يؤثر على مكانة البخاري ومسلم عند علماء الأمة ولا يقدح بإمامة البخاري ولا مسلم، لكن الله يأبى العصمة لكتابٍ إلا كتابه العزيز. إنه من المهم أن يفرق بين ما أسنده البخاري في كتابه وهو الصحيح عنده وبين ما علقه في صحيحه بصيغة الجزم وهو صحيح عنده لكنه ليس كصحة المسند في صحيحه، أما ما علقه بصيغة التمريض فيَحتمِل الصحة إن لم يبين علته، كما يجب أن يعلم أن البخاري يخفف في غير الأحكام كما أشار لذلك بعض الحفاظ. كما أنه من المهم التفريق بين ما أخرجه مسلم في الأصول وبين ما أخرجه في الشواهد، لأنه يرتب الأحاديث في كل بابِ بحسب قوة إسنادها، فعندما يتعارض المتن الأول مع الثاني يقدّم الأول لأنه الأصل، الثاني شاهد له وليس في مرتبته. * الباحث والمستشار بمركز علوم القرآن والسنة