لقد اختلف الصحابة في فهم السنن المروية عن رسول الله، كما اختلفوا في جانب الرواية لها بصورة أقل بكثير لصحبتهم رسول الله ولقرب زمنهم بعد وفاته، وكلا الأمرين وقع، ودواوين السنة تثبت وقوع ذلك الاختلاف وهو كثير في المكثرين من الرواية إلا أنه موجود كذلك في المقلين فيها، لقد اختلفت عائشة مع كثير من الصحابة في دراية كثير من الروايات وفي الرواية أيضا حتى ألف الزركشي في ذلك كتابا سماه "الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة"، واختلف عمر بن الخطاب مع كثيرين أيضا من أقربهم ابنه عبدالله، وكذلك ابن عباس اختلف مع عبدالله بن عمرو بن العاص وعمر وابن مسعود وغيرهم وهكذا أبو هريرة اختلف مع كثيرين في بعض ما رواه وكثير من الصحابة رضي الله عنهم جميعا وما ذلك الاختلاف إلا انعكاس لصعوبة ضبط المسموع من حديث رسول الله دراية ورواية. لقد كان الشيء الذي حال دون رواية كثير من الصحابة للحديث هو خوفهم من فوضى رواية الحديث بدون دراية، وهذه هي الحكمة التي كانت وراء منع عمر بن الخطاب من كتابة الحديث، لما في الرواية بدون دراية من أضرار. قال محمد الغزالي: "إن ما عانت منه الأمة الإسلامية على مر التاريخ من الفهم الخاطئ والتأويل للحديث والسنة، لم تعانه من آلاف الأحاديث الموضوعة المختلقة". إنه مع أهمية الموضوع وخطورته إلى هذا الحد، إلا أننا لا نجد في علوم الحديث التي أحصاها علماء الحديث علما واحدا موضوعه فهم الأحاديث وتأويلها، اللهم إلا علم غريب الحديث الذي يشرح الكلمات الغريبة التي وردت في نص الحديث، وعلم أسباب ورود الحديث الذي يتناول سبب ورود الأحاديث، ومختلف الحديث الذي يبحث في الجمع والتأليف بين الأحاديث التي يرى فيها اختلاف، وأخيرا فقه الحديث الذي يستنبط الأحكام من الأحاديث، وهذه الفنون الأربعة ليست وافية بمنهج متكامل لدراية الحديث ناهيك عن أنه لا يدعي أحد أن العلوم الأربعة المذكورة صار فرعا مستقلا له سماته الخاصة خلال تاريخ علم الحديث. إن مسألة فهم الرواية وتأويلها، أوقعت أهل الحديث وأهل الفقه على طرفي نقيض في طور تكوين الفكر الإسلامي، حتى اتهم أهلُ الحديث أهلَ الفقه بأنهم لا يعرفون الحديث وأنهم يقدمون الرأي والقياس على الحديث، واتهم أهل الفقه أهل الحديث بأنهم حملة أسفار وحطاب ليل لا دراية لهم بما يروونه، وفي ذلك الكثير من الحق مع أن كل واحد من الفريقين قد تأثر بالآخر. لقد كرس علماء الحديث جُلَّ جهودهم لمسألة ثبوت وصحة الرواية، ولم يعيروا مسألة الدلالة التي لا تقل أهمية عن الثبوت مثل ذلك الاهتمام والجهد. ولذلك لا يمكن القول إن المحدثين قد أولوا مسألة فهم نصوص الروايات بشكل صحيح وتأويله الجهد الكافي لدراية ما يروى بشكل صحيح مثل ما أولوا مسألة الثبوت والصحة. لقد أدى جانب المبالغة والحرص على جمع الرواية إلى ضعف جانب العناية بتنقيح الصحيح الثابت عن رسول الله من تلك الروايات، كما ساهم في عدم تطور العلوم التي تعنى بفهم الرواية. إن ضعف تطور العلوم التي تعنى بفهم الروايات ودرايتها أدى إلى اعتماد عامة الفقهاء على أصول الفقه، لسد هذه الفجوة، كون أصول الفقه قد جمع بين أسس علوم أربعة (اللغة، والمنطق، والكلام، والفقه) من ناحية المادة العلمية والفلسفية ومن ناحية نظام الفهم للرواية. ولكن هل كان ذلك كافيا، الحق أنه لا يمكننا القول إن نظام الفهم للرواية في أصول الفقه كان منهجا كافيا لفهم الرواية بشكل صحيح، لأسباب ترجع بعضها إلى أصول الفقه وبعضها الآخر إلى الرواية التي هي المادة المكتوبة من السنة وسأعرض لذلك في مقال لاحق ان شاء الله. الباحث والمستشار بعلوم القرآن والسنة