محاولات تلو محاولات قام بها العلماء لتدوين السُنة النبوية المطهرة وتوثيقها، بالاعتماد على روايات كبار الصحابة والصحابيات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترجيح في ما بينها، ووضع مجموعة من القواعد والاشتراطات لقبول ما يروى عن رسول الإسلام، بصورة علمية ومنهجية لا مثيل لها. ومنذ عهد الدعوة الإسلامية وبواكيرها، بدأ هذا التوثيق الذي سار جنباً إلى جنب مع رواية السُنة النبوية، وقد ضربت السيدة عائشة رضي الله عنها بسهم وافر في الأمرين: في الرواية، وفي التوثيق، وكانت رائدة فيهما على حد قول الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، في تحقيقه لمخطوطة «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة» للإمام بدر الدين الزركشي، الفقيه والأصولي والمحدث، والصادرة في كتاب جديد عن مكتبة الخانجي في القاهرة بالعنوان نفسه. ويؤكد المحقق أن هذا الكتاب فريد في بابه، لأن موضوعه هو استدراكات السيدة عائشة، المُحدثة الفقيهة، على الصحابة في رواياتهم. وهي تعرض ما يرويه الصحابة على الأصول الثابتة والمشاهَدة، من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد الكثير الذي أدى أداءً مُتقناً، كما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجد بعضه قد اعتراه الخطأ أو الوهم، أو قد يتعارض مع ما شاهدته أو سمعته من رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نشأت قواعد النقد الخارجي والداخلي للحديث الشريف، ومنها قواعد الضبط، وعرض السنة على القرآن الكريم، والثابت المتعارف عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصول الإسلامية الأخرى. ويضيف الدكتور عبد المطلب أن السيدة عائشة لم تكن وحدها في هذا المجال، وإنما كان هناك من الصحابة من حذا حذوها، أو حذت حذوه، أو تشابهاً في هذه الاستدراكات، وفي القواعد التي أسست عليها، ومن مجموع هذه الاستدراكات، التي صدرت من السيدة عائشة، ومن غيرها يمكننا أن نقول: «إن السنة خرجت من أيدي الصحابة خالية من الأخطاء والأوهام التي كانت تعتري بعض الصحابة، وهم يقومون بدور تبليغها». لكن، لا يظن ظانٌ أن استدراكات السيدة عاشئة كانت هي القول الفصل، في هذه القضايا والمسائل «بل كثير منها اجتهادات، تقابلها وجهات نظر أخرى، يقر ما عليه الآخرون، مما استدركته عليهم بحيث لا تتعارض من الروايات التي استدركتها مع ما تراه هي صحيحاً، أو تكون هذه الروايات المستدركة منسوخة وصدر ناسخها من دون علم بعض الصحابة الذين يروونها بهذا الناسخ، أو يكون هذا وذاك من باب العام والخاص، أو المطلق والمقيد». وهذه المخطوطة تؤكد من طرف غير خفي أن الصحابة لم يكونوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان هناك استدراك اتهم فيه أحد الصحابة أنه كذَب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بادرت السيدة عائشة بنفي الكذب في بعض الاستدراكات، فقالت: «إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السّمع يُخطئ»!. ولقد رتب الزركشي مخطوطته على أسماء الصحابة المُستدرك عليهم، وتحت اسم كل صاحبي، يأتي بالأحاديث التي رواها، واستدراك السيدة عائشة عليها، ثم يناقش الزركشي ويصحح ويضعف، ويجمع بين الروايات، إن أمكن الجمع بينها، وفي كل ذلك يتجلى سعة علم الزركشي، ومعرفته بالروايات، ما يتفق منها وما يختلف، وكثرة مصادرة، بما يكون فيه إنصاف للسيدة عائشة، وإنصاف للصحابة الآخرين الذين استدركت عليهم. ويقول المحقق إن الزركشي سُبق «في التأليف في هذا الموضوع، فها هو أبو منصور عبد المحسن البغدادي (ت 406ه) صاحب كتاب (استدراك أم المؤمنين عائشة على الصحابة)، وهو يكتفي بإيراد الأحاديث المُستدركة، من دون ترتيب أو تعليق عليها أو تصحيح أو تضعيف أو مناقشة كما يفعل الزركشي، وقد نقل الزركشي عن أبي منصور بعض الروايات التي لم يجدها في مصدر آخر، مما يدل على أنه اطلع على هذا الكتاب، ويبقى للزركشي مصادره المتنوعة، ورواياته الغزيرة، ومادته الواسعة». وهناك كتاب آخر على علاقة بمخطوطة الزركشي، ألا وهو كتاب «عين الإصابة في استدراك عائشة على الصحابة» للسيوطي، وهو تلخيص لمخطوطة الزركشي، لكن السيوطي حذف ما رآه ليس من الاستدراكات، كما أنه رتبه على الموضوعات، وليس على أسماء الصحابة، كما صنع الزركشي. وينكر الدكتور فوزي عبد المطلب أن تكون مخطوطة الزركشي طبعت عام 1939م بعناية الأستاذ سعيد الأفغاني، اعتماداً على نسخة وحيدة بخط المؤلف، وقد بذل الأفغاني جهداً كبيراً في قراءة المخطوطة، ونقلها، لأن المخطوطة (النسخة) تصعب قراءتها، وهناك بعض الكلمات التي لم يستطع الأفغاني قراءتها أو قرئت قراءة غير صحيحة، كما أن الأفغاني لم يخرج الأحاديث، بالرجوع إلى مصادر المُصنف، ومن هنا كانت المخطوطة في حاجة شديدة إلى إعادة التحقيق، وتخريج أحاديثها، وشرح غريبها، وتوثيق النصوص، وهو ما قام به المحقق في هذا العمل الجديد. وممّن استدركت عليهم السيدة عائشة من الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وابن عمر وابن عمرو بن العاص وأبي هريرة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري والبراء بن عازب وعبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير ومروان بن الحكم وأبي الدرداء وجابر وأبي طلحة وعبد الرحمن بن عوف وأخوها عبد الرحمن بن أبي بكر وعلى فاطمة بنت قيس وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم. وتوجد للمخطوطة نسخة وحيدة - هي التي اعتمد عليها أيضاً الأفغاني - في المكتبة الظاهرية في دمشق، ضمن مجموعة تحت رقم (32) مجاميع، وهي من لوحة (68) إلى لوحة (114) أي في أربع وأربعين لوحة، وهي ليست على وتيرة واحدة، فبعضها يبدو مزدحماً بالأسطر، وبعضها ليس فيه إلا أسطر قليلة. يقول الزركشي في مفتتح مخطوطته «الحمد لله الذي جعل فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وأعلى أعلام فتواها بين الأعلام، وألبسها حُلة الشرف.. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة تنظمنا في أبناء أمهات المؤمنين، وتهدينا إلى سنن السنة آمين. وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، الذي أرشد إلى الشريعة البيضاء، وأعلن بفضل عائشة حتى قيل: خذوا شطر دينكم عن الحُمَيْراء». وآخرها: «بلغ السّماع لجميع هذا الكتاب على مؤلفه شيخي ووالدي الفقير إلى الله تعالى بدر الدين أبي عبد الله محمد ابن الفقير إلى ربه جمال الدين عبد الله الشهير بالزركشي الشافعي، عامله الله تعالى بلطفه، فسمعته ابنته عائشة وفاطمة، وسمع من باب الاستدراكات العامة ولده أبو الحسن علي.. ومدته عشرة مجالس، آخرها يوم الأحد لثمان خَلَون من صفر عام أربع وتسعين وسبعمئة، وأجاز لنا جميع مؤلفاته مُتلطفاً بذلك بسؤالي له».