قرأت في جريدة «عكاظ» في عددها الصادر يوم الثلاثاء 27/8/1430ه، رقم 15697 مقالة لنجيب عصام يماني يقول فيها بالخط العريض: ليس للمكي عمرة، يعني: في رمضان، أتى فيها بتخاليط في التعبير وأعلن فيها خطأ نفسه وقلمه، استدل بما لا دلالة فيه، واحتج بما لا حجة فيه، وأخذ نقولا ذكرتني بعد أن قرأتها بمقولة العوام: خطف الكبابة من القدر، ظن أن الساحة قد خلت فأتى بعنوان لمقالته فيه مغالطة، وليس هكذا يكون التوجيه والإرشاد، ولولا ما يجب علينا تجاه إخواننا في الإسلام أن نحسن الظن بهم لكانت كتابتنا على غير هذا الأسلوب، ذلك أنه جانب في مقالته طريقة أهل العلم في التعبير والنقل والإفتاء، أما في التعبير فقوله: ليس للمكي عمرة، يريد: في رمضان، وهذا تخليط نشأ عن عدم معرفته بالفرق بين ما يريد طرحه وبين ما بحثه أهل العلم في هذا، فالذي يريد الأخ نجيب بحثه وطرحه هو فضل تكرار المكي للعمرة في رمضان، بينما الذي نقله في بحثه عن العلماء هو قولهم في فضل اشتغال الحاج المكي والآفاقي بالاعتمار بعد الانتهاء من النسك، وبين البحثين فرق، وفي كل كلام للعلماء وبحث يختلف عن الآخر، وعليه ولكي ينطبق عنوان بحثه مع ما نقله عن أهل العلم كان يجب أن يكون: ليس على الحاج المكي عمرة. ومع أن ابن تيمية قد بحث مسألة تكرار العمرة للمكي وإكثاره منها، ومسألة العمرة في رمضان في الفصل الذي يلي ما نقل منه نجيب يماني بحثه (26/267، 291) نجده لم ينقل من هذا الفصل شيئا، ولا أدري قصدا فعل ذلك أم جهلا، إذ كان فيه ما يوهن استدلاله ويضعف احتجاجه، كون ابن تيمية سلم في بحثه في هذا الفصل للقائلين باستحبابها، وهم أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأشار إلى حجتهم في ذلك وهي أخذهم بالعموميات في فضل العمرة، وأنه من باب تكثير العبادات. نعم لم يخف على أهل العلم أن لابن تيمية نظرا تفرد به في تفسير قوله: عمرة في رمضان تعدل حجة معي، وله رأي خاص به في مسألة إكثار المكي من العمرة في رمضان، وغاية ما احتج به في بحثه عدم وقوعه عن النبي وعدم فعل السلف من الصحابة والتابعين ممن سكن مكة زادها الله شرفا وعظمة وعزة، ومع أن في ما احتج به نظر فقد نقض الشيخ رحمه الله بنفسه هذه الطريقة في الاحتجاج ووافق جمهور أهل الأصول، في أن مجرد عدم الفعل مع عدم ثبوت النهي لا يدل على التحريم أو الكراهة ما لم تكن معه قرينة بالنهي عنه، والمقام لا يسع لبحث مثل هذا فأمثلته كثيرة في الباب، ومما قرره ابن القيم في هذا قوله في الإعلام: موافقة الشريعة هو عدم مخالفتها، ولذلك يقول الإمام النووي رحمه الله في المجموع في مسألة الصلاة قبل العيد: ترك النبي التسبيح قبل صلاة العيد لا يدل على عدم الجواز. انتهى كلامه بالمعنى، وقد قرر ابن تيمية نفسه هذه القاعدة ونقض ما احتج به في مسألة الإكثار من العمرة للمكي، إذ قال في الفتاوى (21/312): ليس لأحد أن يحتج على كراهية دخول الحمام أو عدم استحبابه بكون النبي لم يدخله ولا أبو بكر ولا عمر، فإن هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخولها وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها، إلى أن قال: فنفي الحكم بالاستحباب لانتفاء دليل معين من غير تأمل لباقي الأدلة خطأ عظيم. انتهى. وعلى هذا فقد نبهنا الشيخ رحمه الله إلى وجوب تأمل باقي الأدلة والقرائن المحيطة في مسألة الإكثار من العمرة، وأن لا نترك قول الجمهور من أهل العلم والفقه إلى قول من لم يتأمل تلك الأدلة والقرائن. ولم يكن الإمام البخاري وغيره من أهل الحديث قد غفلوا عن مثل هذا، ولذلك بوبوا في كتبهم عن فضل العمرة، وفضل العمرة في رمضان، وهم أعرف الناس بأوامر النبي ونواهيه وبحاله حين دخل مكة عام الفتح. إذا تبين لك هذا فإبراز نجيب يماني عبارة: رسولنا الكريم عندما قدم مكة لم يعتمر... إلخ. ليس من الحجة في شيء بل هي مغالطة، إذ كان النبي مشغولا بما هو أهم، أما نحن فمشغولون عامنا كله بالسعي المحموم في الاكتتابات، والجري الحثيث وراء الطيبات واتباع الملذات!، أريد رأي الأخ نجيب وأمثاله في فضل الحج كل عام، هل فعله النبي؟، لن يسعه إلا أن يقول: لا، لأنه معلوم بالاضطرار أنه لم يحج بعد هجرته إلا مرة واحدة، فما رأي نجيب في ابن عيينة الذي يقول عنه الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز؟، حج ابن عيينة رحمه الله ثمانين حجة، يقول في كل موقف: اللهم لا تجعله آخر العهد، حتى كان في السنة التي توفي فيها قال: قد استحييت من ربي، أتراه كان مبتدعا؟ قال الزركشي في أحكام المساجد: الإكثار من العمرة مستحب عند الجمهور، منهم الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر، ونقله ابن حزم عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة، ومن التابعين: عكرمة وعطاء وطاوس، وكذلك قال ابن المنذر في الإشراف، وخالف مالك فقال: لا يعتمر في السنة إلا مرة واحدة، وحكاه ابن حزم عن سعيد بن جبير والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي، واحتجوا بأن النبي لم يعتمر في عام إلا مرة واحدة، قال ابن حزم: ولا حجة فيه، وإنما يكره ما حض على تركه، فإنه لم يحج بعد هجرته إلا حجة واحدة فيلزمهم أن يكرهوا الحج إلا مرة واحدة في العمر ولا قائل به، ويلزمهم أن يكرهوا العمرة إلا ثلاث مرات في العمر والدهر وهو خلاف قولهم، فقد حض على العمرة، وأخبر أنها تكفر ما بينها وبين العمرة الثانية كما ثبت في الصحيحين، وفي السنن: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما تنفيان الفقر والهون كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة والذهب، رواه الترمذي وصححه، وكان علي رضي الله عنه يعتمر في كل شهر مرة، رواه سعيد بن منصور، واعتمر ابن عمر في عام واحد عمرتين، وقال غيره: حفظ عن ابن عمر بعد وفاته أنه اعتمر ألف عمرة، وكان من أهل مكة واعتمرت عائشة ثلاث مرات في عام واحد، وعن أنس أنه أقام بمكة شهرا فكان كلما جمر رأسه خرج فاعتمر، رواه ابن حزم انتهى. وهذا الذي قرره ابن تيمية في المسألة، وما ذكره الزركشي عن الجمهور هو الذي مال إليه وأيده علامة العصر، ومفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله، وقد كان رحمه الله أحرص الناس على طاعة ولي الأمر وترك مخالفته، إذ قال حينما سئل في برنامج الإذاعة «نور على الدرب» عن الإكثار من العمرة في رمضان وعن حديثها، قال: نعم، الحديث صحيح، متفق على صحته، يقول النبي: عمرة في رمضان تعدل حجة، وفي رواية أخرى: حجة معي، قال رحمه الله: فللعمرة فضل عظيم في رمضان، والحديث صحيح، فينبغي للمؤمن اغتنام الفرص. انتهى كلامه، فأين هذا ممن يدعو إلى ترك الإكثار من أنواع الطاعات وانتهاز الفرص في مواسم الخيرات، حتى استهزأ في مقالته بالمتنافسين في الطاعات، وقد قال المولى عز وجل (أرأيت الذي ينهى)، وقال تعالى ذاما حال المنافقين: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم). وأما حكاية نجيب حال نفسه أو حال غيره ممن عرف بقوله: يقضي المعتمر في سيارته ساخطا ناقما شدة الزحام وحرارة الجو ...إلخ، تلك العبارات التي يبرأ منها طالب المغفرة في هذا الشهر الكريم، وكيف يظهر مثل هذا ممن خرج من بيته وهو يعلم أن أجره قد وقع على مولاه وولي نعمته، وممن يعلم أن الأجر على قدر المشقة، وممن هو صائم قد علم ما ينبغي أن يكون عليه من الأخلاق الحميدة، لكني أنصح نجيب ومن كان هذا حاله أن يقعد في بيته إذ كانت نفسه تتضجر من التقرب إلى الله وحتى لا يفسد على نفسه صومه فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الصوم جنة ما لم يخرقها».