ربما أكثر الأشياء تزييفا (ربما) هي "الأنا" كونها فكرة وشعورا تولد من رحم الهوان والشعور بالنقص، أو التعصب فما أصعب أن يبني الإنسان بيته على رمل متحرك، والأصعب منه حين يحلق في السماء من غير أن يظن أن هناك وقتا للنزول، راقبوا الأسماء أو الأشخاص أو المؤسسات أو حتى الأندية الرياضية التي يتصاعد منها غبار الأنا بلباس الألقاب عليها _ الزعيم _ متصدر لا تكلمني _ وغيرها، وهنا لا أعني تحديدا نادي النصر الرياضي والذي اتمنى له الصدارة وأن يشرف هو والأندية الرياضية الأخرى سمعة الكرة السعودية عامة، ولكن المقصود تصدير أنا _ الخطاب _ كهوية للغلبة أو الإعجاب بالنفس. والمتابع تحديدا للحياة الأكاديمية أو الاجتماعية أو حتى الوظيفية يلحظ في المقابل خللا ذوقيا وفجوة سلوكية وظاهرة تشوه وجه المعرفة ولباس العلم، فالكل في الواقع مشاركون ربما في الخلل على جميع مستوياته، فالمؤسسة التعليمية والتربوية هي الأولى بالاهتمام بالمنظومة الذوقية على جميع أصعدتها خاصة ومجتمعنا تتجاذبه قوى العولمة من كل مكان، وفي المقابل نجد أن المدنية الحديثة باتجاهاتها المختلفة تأكل وتمخر في جسد مجتمعنا، خاصة إذا جعلت الماديات هي الحاكمة على السلوك، فاللغة الفردية الحاملة معها نزعة (الأنا والشخصانية)، والنظر دائما إلى الذات بمنظار الإعجاب الذي ولّد عند أفراد أو جماعات أو سياسيات مثل هذه النزعات القائمة؛ على أساس إذا لم تكن معي في ما أحمل من رأي وما أبدي من فكر فأنت ضدي!. أو أنا فقط أو المهم ما أريد أنا، والنهاية هي تصدير ثقافة «الغاية تبرر الوسيلة» كما رأى الفيلسوف «فولتير»، وما أقبح الأنا في عالم السياسة والتي مآلها أن تدمَّر شعوبٌ لينتصر واحد، ولتضخم الأنا والأنانية تمردت أحزاب وجماعات على حكوماتها، وصارت لغة الانتقام المسيطرة والتي جعلت اليوم علي عبدالله صالح يبيع مستقبل اليمن، ليتعاون مع كل مستأسد أو حوثي على كرامة اليمن واحترام سيادته ليثبت له شرعية بالقوة. والسؤال المهم هنا... لماذا المجتمعات المتطورة أو العصرية بعيدة عن الأنانية والتشققات الفردية؟ لأنها تدرك أن نتاجها ليس لأسمائها بل لمؤسساتها الوطنية، ولصالح الأهداف والرؤى والمصالح الكلية. لذا ترى أن عمق وتجذر "أنا" في النفس جعل كلمة "آسف ما أقدر" لو سمعها أحد من صديق أو جار طلب منه خدمة في قرض أو شفاعة وقالها لأحس المقابل أن الموضوع شخصي وأنه انتقاص له ولشخصه وذاته، ناهيك عن النقد وضروبه. لذا فمقولة الشافعي: "قولي صواب يحتمل الخطأ..." لو صارت قاعدة حوارنا وتعاملنا لتحررنا من حظوظ نفوسنا، ولو تواضعنا لبلغنا درجة الشافعي وفكره العلمي والمنهجي. وبهذا تصبح أرضيتنا التي ننطلق منها بعيدة عن التصنيف أو التعنيف أو إطلاق العبارات التي تتسم بتجهيل الآخر أو تنقيصه. وتاريخ البشرية مغرد في أن حضارة الإسلام أسست مبدأ من مبادئ الحياة الاجتماعية المدنية أو التعايش الاجتماعي المتعاون بلا أنا أو أنانية، المصافح لعوامل الديمومة والنماء ذلك أن طبيعة الحوار والتحاور ذاتها تسمح للمختلفين أن ينظر كل منهم إلى نفسه انه صاحب فضل وقيمة، وأن يمارس حقوقه بما فيها حق الإقناع والاقتناع ويعبر عن هويته الذاتية بحرية، أو المبدأ الذي لا بد من مراعاته وهو منثور في الثقافة الغربية القائل: "let the best argument win" ومعناها (دع أحسن الحجة تفوز)، إذ الفوز الحقيقي أن تكون انتماءاتنا وحوارنا وعملنا المشترك هو لنقاء مناخ مؤسساتنا _لا مناخ الطبقية أو العنصرية أو الانتماءات الحزبية الضيقة _ فهذه المناخات المصدرة والمتصدرة دوما لقول "أنا وبس" ولو ادعت أو تلونت بلباس التحضر والعدالة، لذا دورنا ودور رواد القيادة والعلم كبير في تعديل المسار ووضع الخطط لتكون الصدارة للإنتاج بنكهة الفريق الواحد لا للأسماء وأنا الذات، فالطامة أن تعطى القيمة أصلا لما لا قيمة له، وصدق ابن الوردي حين قال: قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل لا تقل أصلي وفصلي إنما أصل الفتى ما قد حصل إن مجتمعنا اليوم بحاجة أن يربي ويتربى على نكران الذات ونسيان "الأنا" والتفكير المشترك على جميع الأصعدة الثقافية والرياضية والاجتماعية، فالإسلام يرعى الإيجابية والتحرك الجماعي لخدمة المجتمع، وخفاء العمل إن كان الأمر متعلقا في القربات والطاعات، وتبقى طبيعة المؤسسات أو الأشخاص الناجحين هم من محوا الأنا في كلامهم أو سلوكهم. * الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل