أكثر الأشياء تزييفا ربما هي «الأنا» كونها أفكارا تولدت من رحم الهوان والشعور بالنقص، فما أصعب أن يبني الإنسان بيته على رمل متحرك، والأصعب منه حين يحلق في السماء من غير أن يظن أن هناك وقتا للنزول، راقبوا الأسماء أو الأشخاص أو المؤسسات أو حتى الأندية الرياضية التي يتصاعد منها غبار الأنا بلباس الألقاب عليها -الزعيم- متصدر لا تكلمني- وغيرها، ولعل المتابع خاصة للحياة الأكاديمية أو الاجتماعية أو حتى الوظيفية يلحظ خللا ذوقيا وفجوة سلوكية وظاهرة تشوه وجه المعرفة ولباس العلم، فالكل في الواقع مشاركون ربما في الخلل على جميع مستوياته، فالمؤسسة التعليمية والتربوية هي الأولى بالاهتمام بالمنظومة الذوقية على جميع أصعدتها خاصة ومجتمعنا تتجاذبه قوى العولمة من كل مكان، وفي المقابل نجد أن المدنية الحديثة باتجاهاتها المختلفة تأكل وتمخر في جسد مجتمعنا خاصة إذا جعلت الماديات هي الحاكمة على السلوك، فاللغة الفردية الحاملة معها نزعة (الأنا و الشخصانية) والنظر دائما إلى الذات بمنظار الإعجاب الذي ولّد عند الكثير مثل هذه النزعات القائمة على أساس إذا لم تكن معي في ما أحمل من رأي وما أبدي من فكر فأنت ضدي! أو أنا فقط أو المهم ما أريد أنا فالغاية تبرر الوسيلة كما رأى الفيلسوف «ميكافيلي»، والسؤال لماذا المجتمعات المتطورة أو العصرية دائما ما تنتمي إلى العمل الجماعي أو الفريق الواحد البعيد عن التشققات الفردية؟ لكونها تدرك أن نتاجها ليس لأسمائها بل لمؤسساتها الوطنية ولصالح الأهداف والرؤى الكلية. ولعل كلمة «آسف ما أقدر» لو سمعها أحد من صديق أو جار طلب منه خدمة في قرض أو شفاعة وقالها لك لأحسست أن الموضوع شخصي وأنه انتقاص له ولشخصه وذاته، ناهيك أن النقد وضروبه لذا فمقولة الشافعي: «قولي صواب يحتمل الخطأ ...» لو صارت قاعدة حوارنا وتعاملنا لتحررنا من حظوظ نفوسنا، ولو تواضعنا لبلغنا درجة الشافعي وفكره العلمي والمنهجي، وبهذا تصبح أرضيتنا التي ننطلق منها بعيدة عن التصنيف أو التعنيف أو إطلاق العبارات التي تتسم بتجهيل الآخر أو تنقيصه. وتاريخ البشرية مغرد في أن حضارة الإسلام أسست مبدأ من مبادئ الحياة الاجتماعية المدنية أو التعايش الاجتماعي المتعاون بلا أنا أو أنانية، المصافح لعوامل الديمومة والنماء. ذلك ان طبيعة الحوار والتحاور ذاتها تسمح للمختلفين أن ينظر كل منهم إلى نفسه صاحب فضل وقيمة، وأن يمارس حقوقه بما فيها حق الإقناع والاقتناع ويعبر عن هويته الذاتية بحرية، أو المبدأ الذي لا بد من مراعاته وهو منثور في الثقافة الغربية القائل: «let the best argument win» ومعناها (دع أحسن الحجة تفوز). إذ الفوز الحقيقي والانتصار الوظيفي أن تكون انتماءاتنا وحوارنا وعملنا المشترك هو مناخ مؤسساتنا العلمية والتربوية فقط -لا مناخ الطبقية أو العنصرية أو الانتماءات الحزبية الضيقة- فهذه المناخات المصدرة والمتصدرة دوما لقول «أنا وبس»، ولو ادعت أو تلونت بلباس التحضر والعدالة. لذا دورنا ودور رواد القيادة والعلم كبير في تعديل المسار ووضع الخطط لتكون الصدارة للإنتاج بنكهة الفريق الواحد لا للأسماء وأنا الذات، فالطامة أن تعطى القيمة أصلا لما لا قيمة له، وصدق ابن الوردي حين قال: قيمة الإنسان ما يحسنه أكثر الإنسان منه أو أقل لا تقل أصلي وفصلي إنما إنما أصل الفتى ما قد حصل