الحروف والكلمات التي يتألف منها القرآن ليست ككلام الناس، بل آيات من نور من رب النور لِتَهب النور، كم رأيت من صغير وكبير، ورجل وامرأة، ومسؤول وتابع، فألاحظ الفرق بين هذا وذاك في طريقة اللقيا، وفي العطاء، وفي الضراء والسراء، فأبحث عن السر وراء تفوق هذا وإخفاق أولئك؟! فأجد الإجابة أن حروف النور وكلماته وآياته وسوره قد حلت في القلب فأشعَّت فيه النور فأنارت الجوارح والحياة. لم تغادر مخيلتي يوماً من الأيام صورة الشيبة المسلم الذي شارف على الثمانين، وله عدد من الأولاد والبنات وقد تزوجوا واستقلوا، وهو كفيف، وزوجته توفاها الله، كان يعيش وحده في بيته بجوار مسجد من مساجد حينا القريب في "بريدة" في حي الصناعة، وقد رفض أن يشغل أولاده به، غير أنه وافق على ما يأتون به إليه من طعام أحياناً، لكن من الذي يخدمه وماذا كان يسليه طوال اليوم وليلته؟ كان حافظاً للقرآن متقناً له ضابطاً لمواضعه، حتى أذكر أنني مررت فجر أحد الأيام بعد الصلاة فوجدته يقرأ بالنساء ثم ذهبت وأتيت بعد أقل من ساعتين فوجدته يقرأ بسورة التوبة، وعلمت بعد نقاش معه، أن برنامجه يبدأ قبل الفجر يصلي ما كتب الله له، ثم يخرج لصلاة الفجر ويجلس في مصلاه إلى ارتفاع الشمس، ثم يذهب لبيته ليأكل ما تيسر، ويرتاح قليلاً، وقبل الظهر يخرج للمسجد ويصلي حتى تأتي الصلاة فيصلي، ويمكث بعدها سويعة مصلياً وقارئاً، ثم يذهب للبيت يأكل ما تيسر، كان يخدم نفسه بنفسه ولا يحب أن يحرج أحداً مع أن أبناءه وبناته يصرون على خدمته فيرفض مع شكرهم، ثم يرتاح قليلاً وبعدها يخرج لصلاة العصر، ويمكث في المسجد من العصر حتى بعد صلاة العشاء، قارئاً متأملاً متفكراً، وهكذا جميع أيامه ولياليه، ما رأيت وجهه إلا وجدته متهللاً كأنه فلقة قمر، يفتر ثغره عن بسمة جميلة، لا تسمع منه إلا الحمد والشكر والدعاء لمن يسلم عليه، تأملت في لغز هذا الرضا النفسي والبسمة المشرقة على وجهه مع أنه لا يوجد أحد في خدمته ومؤانسته؛ فعلمت يقينا أنه الإيمان بالله وحفظه للقرآن كاملاً يراجعه حفظاً يومياً أو كل يومين، قلبه معلق بالمسجد والصلاة مصلياً وتالياً وقارئا كأنه عمود من أعمدته، فهو ما بين صلاة وقراءة وجلوس وتفكر! إن ذلك مثال واضح لأثر القرآن على أهله، قال تعالى: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، وهذا ما رأيته في عدد من حفاظ القرآن الكريم المصادقين له قراءة وحفظاً وتفكراً، من هؤلاء الشيخ علي الوليعي -رحمه الله- الذي يراجع القرآن في ثلاث أيام ما رأيته إلا ذاكراً شاكراً، كذلك جدة الأستاذ الصديق صالح العبودي -رحمها الله-، كانت حافظة القرآن وشهر عنها الطيب والهدوء بسبب ذلك، حتى لما كبرت وأصابها فقدان الذاكرة نسيت كل شيء لكنها تقرأ السور ولا تخرم منها آية وماتت على ذلك. ولذا -بحكم تخصصي- لما يراجعني من يشكو أرقاً أو قلقاً أو ينشد طمأنينة وسعادة، أوصيه بالقرب من القرآن والمسجد وكثرة الذكر والصلاة، وأؤكد عليه حفظ القرآن أو بعضه أو سور منه ثم تردادها، والتفكر فيها وقد لاحظت عليهم ارتفاعاً في الطمأنينة وهدوءاً بعد تعرضهم للقلق والغضب الدائم: ويهدني ألمي فأنشد راحتي ******* في بضع آيات من القرآن إنّ هذا من السكينة القلبية التي أشار إليها في الحديث: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة"، وهذا أكده أيضا أحد الباحثين في باكستان لمن يشكون اكتئاباً، حيث وضع لمرضاه برنامجاً في رمضان يجمع بين القرآن وقراءته وصلاة الليل، فلاحظ انخفاض الاكتئاب لديهم بخلاف من لم يعرضوا للبرنامج نفسه الذين ظلّوا على نسبة اكتئابهم، ولا أعلم -حسب التجربة والبحث والمتابعة- أحدا يقرأ القرآن ويحفظه أو يحفظ شيئا منه ويكثر من التفكر فيه مع الصلاة أنه يشكو مرضاً نفسياً مزمناً ومستمراً، وإنما شيء عارض ويزول، وهذا مصداق قول الحق تبارك وتعالى: "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين"، وورد في الحديث: "قلت يا رسول الله أوصني؟ قال: عليك بتلاوة القرآن، فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء". ومن صاحب القرآن فإن له مع الآيات آيات، في نفسه وحياته. *أستاذ التوجيه والإرشاد النفسي بجامعة القصيم