إن رحيلاً كبيراً بحجم عبدالله بن عبدالعزيز لهو رحيل مؤلم، وفاجعة كبرى، لمجتمع أحب هذا الرجل حباً كبيراً، ولم يكن هذا الحب لولا أن عبدالله بن عبدالعزيز- الإنسان قبل أن يكون ملكاً- هو من عزز هذه العلاقة التواصلية وأواصر المحبة بينه وبين أفراد الشعب السعودي الكبير. أستطيع أن أقول بملء الفم إن الملك عبدالله- رحمه الله- قد عمل حالة (أكشن) للحالة السياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، وهذه الحالة الاستثنائية مصدرها ومنبعها من طبيعته الفطرية، ووعيه بتعاملاته الإنسانية، ولذلك فلم يكن للطقوس السياسية أو «برستيج» الحالة الملكية تأثير على شخصيته القوية، بل إنه كان يحول المواقف الرسمية والجادة لحالة مفعمة بالطبيعة الإنسانية من التبسم والمزح المقبول، مع القوة في اتخاذ القرار وصناعة المبادرة، وبشهادة أكثر المتابعين للحالة السياسية التي قادها الملك عبدالله بن عبدالعزيز- رحمه الله- فإنهم يرون أن فترته تكاد تكوِّن "دولة سعودية رابعة"! بمعنى أن مجمل قراراته ومبادراته قد غيرت من ملامح الفكر والتنمية التي كانت خلال تاريخ الدول السعودية السابقة تاريخياً، وبالفعل فقد كانت رؤيته- رحمه الله- منبعها تفكير ثاقب في مسألة أن لا تطوير ولا إصلاح مالم يكن تنويرٌ فكري قائم على رؤية وسطية نابعة من روح الإسلام الطبيعي بعيدة عن التشدد والغلو. حدثني الناقد العراقي الكبير: علي عباس علوان فقال: (استضافت الجنادرية في عام 1994م الشاعرين الكبيرين: محمد الجواهري، وعبدالوهاب البياتي، وكان لهما لقاء شخصي مع الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، فلما اقترب الجواهري قام الأمير عبدالله بفتح يديه بطريقة الاحتضان وقال: أهلاً بأخي المناضل، أهلاً بأخي في العروبة! وكان الجواهري والبياتي مستغربين لهذا الترحيب الإنساني الذي لم يتوقعاه!، وقال الجواهري للدكتور علوان: إن كان هناك تغيير فكري في السعودية فسيكون مع عبدالله بن عبدالعزيز. انتهى). وبالفعل فقد كان الملك عبدالله قائد مرحلة الانفتاح الفكري بامتياز، وكان عهده عهداً تأسست فيه مراكز الحوار الوطني بين كافة الأطياف الفكرية والثقافية والاتجاهات المذهبية تحت مظلة الوطنية الشاملة للجميع، ومراكز الحوار الحضاري للأديان حول العالم، كما كان مشروع الابتعاث في التعليم العالي من أكبر المشاريع في التنمية البشرية التي شهدها جيل محظوظ من شباب وشابات المملكة، كما لاننسى ما أولاه الملك- رحمه الله- من اهتمام بفتح ملفات حساسة ووضعها على طاولة الشفافية والصراحة ومنها ملفات: الفقر، والمرأة، والإسكان، ومحاربة الفساد، والإرهاب بكل مستوياته الفكرية والصدامية المسلحة، كما كان لمستويات التناول الثقافي والفكري في الإعلام دوره في رفع سقف الحرية والصراحة التي لم تكن معهودة، لكنه عززها وساهمت قراراته في جعل الكاتب والمثقف والصحفي شريكاً في إصلاح أي خلل يمر به الوطن والمواطن في كل القضايا. وأتذكر شخصياً أن أكثر من مقال كتبته في جريدة اليوم كان يحظى بعناية ومتابعة من قبل المسؤولين في الديوان الملكي، وكانوا يتلمسون بكل شفافية وتقدير مايطرحه كل كتاب الرأي في الصحف السعودية، ومن خلالها كانت ترسل المراسلات للجهات الحكومية المعنية التي يتبين فيها خلل أو مشكلة أو مظلمة للمواطنين، وكانت هذه الرؤية من رؤى الملك عبدالله- رحمه الله- ليكون الكاتب والمثقف شريكاً في تبصير الدولة وأصحاب القرار بالإصلاح الوطني الشامل لرفاهية الجميع. رحم الله الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وعزاؤنا الكامل لكل الشعب السعودي ولكافة الأسرة الحاكمة، ولمقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير مقرن بن عبدالعزيز، وولي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، ودعاؤنا الخالص لهم أن يسددهم الله ويحفظهم ويوفقهم لإكمال مسيرة الخير والبناء في هذا الوطن الجميل. باحث في الدراسات الثقافية