لاقت الميزانية العامة للمملكة العربية السعودية اهتماما، يزيد بشكل كبير عما اعتدناه في الأعوام السابقة. فالتطورات الحاصلة في أسواق النفط ألقت بظلالها على كافة جوانب الاقتصاد السعودي، بان أثرها في إعلانات الميزانية المتعددة بالإضافة إلى تصريحات وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف. وقد استقبل الشارع الاقتصادي الميزانية وما رافقها من إعلانات وتصريحات بتردد كبير. ظهر هذا التردد على تذبذب أداء سوق الأسهم السعودي، الذي وإن كان أنهى جلسة يوم أمس الخميس على ارتفاع بسيط، فإنه تردد بين استكمال مسيرة الصعود التي بدأها مطلع الأسبوع، وبين التراجع في وسط الجلسة بعد الإعلان عن الميزانية. المواطن أيضا كان على طرفي النقيض. فالمتفائل وجد فيها ما يعزز تفاؤله، فالإنفاق الحكومي لم يتراجع كما أنها مستمرة في الإنفاق الرأس مالي. كما أن أداء القطاعات غير النفطية بين القطاعين الخاص والعام في تحسن مستمر. ولكن على الجانب الآخر، نجد المتشائم ينظر إلى العجز غير المسبوق المقدر في ميزانية العام المقبل. بالإضافة إلى ذلك وعلى الرغم من أن الإيرادات الفعلية جاءت أعلى بكثير من التوقعات الأولية بحكم تحفظ هذه التوقعات، إلا أن الميزانية الفعلية للعام الحالي يتوقع أن تحقق عجزا بمقدار 54 مليار ريال. هذا العجز كان متوقعا منذ قامت الحكومة بسحب مبلغ 50 مليار ريال من الاحتياطي العام في نهاية الربع الثالث لهذا العام. بالنظر إلى أداء سوق المال السعودي، على مدى الأسبوع الماضي، نجد أن عدم تفاعل السوق مع الميزانية متوقعا؛ نظرا للارتفاعات التي حققها طوال الأسبوع. فقد كان لتصريحات وزير المالية الأثر الأهم في طمأنة المتداولين حين أكد أكثر من مرة عزم الحكومة السعودية على الاستمرار في تمويل المشاريع، ونفى أن تكون السعودية تتوجه للتخلي عن سياستها المالية التوسعية. وأكد في تصريح آخر عدم تأثر الإنفاق على التعليم والصحة بتراجع أسعار النفط. وجاءت ميزانية العام 2015 بزيادة طفيفة مع الحفاظ على إنفاقها في كافة المجالات الحيوية. وشدد إعلان الميزانية أن تمويل المشاريع التنموية المرصودة سابقا سيتم من احتياطيات خاصة تم تجنيبها مسبقا. وإن كان الإنفاق الرأس مالي قد تراجع بشكل طفيف إلى 185 مليار ريال، إلا أن هذا التراجع مطلوب ويجب النظر له بإيجابية، فالموازنات يجب أن تكون حساسة للمتغيرات. مع زيادة التدقيق والتحليل في الأرقام التقديرية المعلنة للمصروفات الفعلية للعام الجاري، نجد أن الإشارات الإيجابية والسلبية تختلط وتتشابك. فالإنفاق الحكومي الزائد عن التقديرات عاد للارتفاع بشكل حاد. فما رصد للمصروفات في العام 2012 كان 690 مليار ريال وجاءت المصروفات الفعلية بزيادة نسبتها 27%، ثم رصد للمصروفات في العام 2013 مبلغ 820 مليار ريال وجاءت المصروفات الفعلية بزيادة 13%. أما في العام 2014، فقد رصد للمصروفات مبلغ 855 مليار ريال، وجاءت المصروفات الفعلية لتفوق 1.1 تريليون ريال، لتعود بنسبة الزيادة إلى الارتفاع مرة أخرى إلى مستوى 29%. ميزانية العام 2011 كانت نقطة تغير في تاريخ الميزانيات السعودية. فقد فاقت المصروفات الفعلية فيها ما تم تقديره من مصروفات بنسبة 47%. معظم هذه الزيادة كانت نتيجة الأوامر الملكية بصرف راتبين ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 3000 ريال، ورفع رؤوس أموال كل من صندوق التنمية العقارية والبنك السعودي للتسليف، إضافة إلى تكاليف توسعة الحرمين الشريفين وتعويضات نزع الملكيات. ومع أن معظم هذه الزيادات ليست متكررة، إلا أنها عمقت من اعتماد النشاط الاقتصادي السعودي على المصروفات الحكومية بشكل كبير. كل هذه الإشارات تم استيعابها من قبل واضعي السياسة المالية للحكومة السعودية. ولذلك كانت اللغة التي صاحبت إعلان الميزانية مختلفة عن كل سنة. فبيان وزارة المالية ركز في طياته على كفاءة بالإضافة إلى أن بنود الميزانية كانت أكثر تفصيلا في الأهداف والمشاريع المخطط لها. كما أن إعلان الميزانية أشار لأول مرة إلى هدف تخفيض نسبة بند الرواتب والأجور خصوصا الذي وصل إلى 50% من إجمالي المصروفات الجارية. كما ركز معالي الأمين العام لمجلس الوزراء الأستاذ عبدالرحمن بن محمد السدحان في كلمته إلى المواطنين، على ترشيدِ الإنفاق وتحسين الخدماتِ والتنفيذ الدقيق والكفْءُ لبرامج ومشاريع الميزانية. على جانب تكاليف المعيشة والتضخم، فقد سجل التضخم تراجعا في العام الجاري، ويتوقع أن يستمر هذا الاتجاه. فالدولار الأمريكي مازال مستمرا في تعزيز مكاسبه أمام باقي العملات، الأمر الذي يرفع من القيمة الشرائية للريال السعودي. وبذلك تتشكل أمام الاقتصاد السعودي فرصة ذهبية في العام المقبل؛ لاستقطاب وبناء صناعات وتقنيات جديدة، تساهم في تنويع القاعدة الاقتصادية، أو حتى تخفيف استهلاكنا المحلي من النفط وزيادة كفاءة هذا الاستهلاك. فقد أشار إعلان الميزانية إلى حساسية وضع الاقتصاد العالمي والسوق النفطية، وأهمية تخفيف أثر تقلبات أسعار النفط على الميزانية. ولذلك فإنه من المهم تحويل الفوائض إلى أداة استثمارية فاعلة تستهدف قطاعات غير نفطية، مدرة للعوائد، بحيث يمكن للمملكة الاعتماد عليها في أوقات تراجع النفط. أما بالنسبة إلى ترشيد الإنفاق والتركيز على التنفيذ والكفاءة، فعند جمعهما بالزيادة الطفيفة في المصروفات المقدرة للعام 2015، فإن ذلك يعطينا مؤشرا على عزم الحكومة على العمل على كسر الاتجاه التصاعدي للنفقات الحكومية الإضافية. فهي كما أنها تشكل عبئا على الميزانية من جهة، فإن العائد الاقتصادي الناتج عن النفقات الجارية التي تمول الأجور والرواتب في تراجع مستمر؛ كونه لا يحرك إلى قطاعات استهلاكية. بالإضافة إلى ذلك، فمن الضروري رفع كفاءة الإنتاجية في القطاعين العام والخاص؛ لتحسين القيمة المضافة للمصروفات الحكومية سواء كانت ذات طبيعة استثمارية أو جارية. إحدى الأدوات التي يمكن اعتمادها في العام المقبل لرفع كفاءة تنفيذ المشاريع، هي التوجه لتمويل العجز عن طريق أسواق الدين. فالاستثمار المؤسساتي في الدول الصناعية الكبرى يعتمد على أسواق الدين كأداة استثمارية أساسية، وبناء على ذلك فإن إشراك القطاع المصرفي والمالي في تمويل المشاريع الحكومية سيرفع من شفافية ونوعية تنفيذ هذه المشاريع. فالرقابة التي تمارسها المصارف على تمويلها للمشاريع الكبيرة تصب في مصلحة المشاريع والمستفيدين منها.