يمر العالم الإسلامي لا سيما المنطقة العربية بأحداث كبرى منذ بضعة أعوام، تمثلت في اندلاع الثورات العربية وما تلاها من أحداث، ويعتقد عامة المراقبين والمحللين - على اختلاف توجهاتهم الفكرية وخلفياتهم الأيديولوجية - أن هذه الأحداث ستلقي بظلالها وتداعياتها على العالم العربي لعقود قادمة، وأنها في طريقها لأن تكون سبباً في إعادة تشكيل وترتيب المجتمعات العربية على نحو مغاير لما كانت عليه منذ رحيل الاستعمار وقيام الدولة الحديثة في التاريخ المعاصر، كما أن من طبيعة هذه الأحداث الكبرى - بتفاصيلها المعقدة ومراحلها المتنوعة - أنه يصعب توصيفها بالخير العميم الذي لا شر فيه أو الشر الوبيل الذي لا خير فيه، فهذه الأحداث لها مكاسبها وإيجابياتها، كما أن لها ضريبتها وخسائرها، وقدرة الباحث على الوصول لتقييم وتحليل أقرب للصواب في تحليله للأحداث عائد بعد توفيق الله إلى جمعه بين عاملين: الأول: امتلاكه الحصيلة الشرعية التي تؤمّن له المعايير الشرعية المنبثقة من الكتاب والسنة، والتي تمكنه من التمييز بين مكاسب الأحداث وخسائرها، إذ إن الباحث المسلم يدرك أن ليس ثمة خير ونفع للمسلمين في دينهم ودنياهم إلا وفي الإسلام ما يدعو لتحقيقه وتحصيله، وهذا المعيار بقدر ما يفتقده الباحث المسلم بقدر ما يخطئ في قياس المكاسب التي يحصّلها من هذا الحدث أو ذاك، وبالتالي لا ينبغي أن يستغرب المرء من وقوع بعض الباحثين والمفكرين في أخطاء فادحة بالمعايير الشرعية نتيجة لخلل في بنيتهم الاستدلالية الفقهية، أو طغيان الاهتمام بتحقيق مقاصد شرعية أدنى على حساب مقاصد شرعية أعلى منها أو ما يمكن تسميته باضطراب الأولويات المقاصديّة. الثاني: فقه واقع الأحداث ودراسة دوافعها ومنطلقاتها ومآلاتها، وغنيّ عن القول بأنّ فقه ومعرفة الواقع السياسي الذي يعيشه العالم شديد التعقيد بما لم يُعهد على مدى التاريخ، وذلك للطفرة الهائلة التي يعيشها المجتمع البشري في وسائل المواصلات وأدوات الاتصال، وما ترتب عليه من تداخل واشتباك بين مصالح الدول والأمم، ولأن النظام الدولي الذي يدير العالم له خلفيته الفكرية والسياسية التي تشكلت في السياق التاريخي الغربي والذي يحتاج لقراءة شاملة وفاحصة لفهمه واستيعابه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة، والتي يُراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدّم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإنّ من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان يفسد أكثر مما يصلح) . لأجل هذا يجدر بالباحثين الجادين المعتنين برصد واقع الأمة وتحليل أزماتها وأحداثها أن يتواصلوا مع أهل العلم الشرعي لاستكمال احتياجاتهم في الجانب الشرعي، كما يجدر بطلاب العلم الشرعي التواصل مع الباحثين المختصين في العلوم السياسية والاقتصادية وسائر العلوم الإنسانية، إذ إن القصور في تصور الوقائع أو النوازل يفضي لخطأ أو قصور في تنزيل الأحكام الشرعية عليها.