تعتبر المقاربات الفكرية بين الثقافات المختلفة والديانات المتعددة، لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف، ومدى التكامل البنائي للمعارف الإنسانية وتطوراتها عبر التاريخ وتنقلاتها عبر الجغرافيا، من أهم مجالات العمل المعرفي والأكاديمي المعاصر، وقد تفنى أعمار الأفراد في تتبعه ودراسته ولا تنجزه في الغالب إلا المشاريع المؤسساتية والمراكز البحثية على رغم قلّتها في عالمنا المعولم والمتقارب لدرجة التداخل والذوبان ضمن قوالب مجتمعية أحادية النظر ومادية الفكر، ومع هذا التمازج الذي فرض نفسه على الأرض، لا تزال ثقافة الاستهلاك والاستلهاء هي التي تنصب الجسور بين الافراد والمجتمعات.هذه الرؤية في الجمع بين الأشباه والنظائر لعلماء ومفكرين قدموا للإنسانية تراثاً هائلاً خالداً للدراسة والبحث، لا يمنحنا قطعية الحكم على ثبوت الاقتباس بين تلك النظائر العلمية مع بقاء الاحتمال في وجود خيوط اتصال جمعت بينها في لحظة توافق أو تمانع معرفي، كما أنها لا تعني تهمة النقل والإفادة من دون رد حق النقل لصاحبه؛ فلعل ظروف القطيعة والتعادي بين أصحاب الديانات والحضارات في العصور الوسطى تجرّم هذا النقل وتكفّر صاحبه وتجعل من السلامة والحكمة نقل الفائدة من دون العزو اللائق بأصحابها، كما يؤكد ذلك مايكل مورجان في كتابه «تاريخ ضائع» وجونثان ليونز في كتابه «بيت الحكمة». وما أكتبه في هذا المقام هو محاولة لرصد بعض تلك الخيوط التي جمعت بين علماء كبار من أديان وحضارات متفرقة أدت إلى بروز مشاريع تغيير وإحداث تجديد خرجت عن مألوف ذاك الزمان، وما زالت تمنح الباحثين وهجاً جذاباً لمعاودة النظر والبحث في المقارنة والحرث في تراث أولئك الرواد.ولعلي أختار للتدليل والتمثيل على هذا المنحى ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية (ولد 1263 وتوفي 1328م) في مجال العلاقة بين السياسة والدين، وما ألّفه باروخ سبينوزا (ولد 1632 وتوفي 1677م) في السياسة ونقد التراث الديني، والمؤلفات لهما متعددة، ويمكن المقاربة بين كتاب ابن تيمية «السياسة الشرعية» وهي رسالة مختصرة ضمن مجموع فتاواه، وبين رسالة سبينوزا في اللاهوت والسياسة، والمراد من هذه المقاربة معرفة مقاصد السياسة باجتماعها مع الدين، ومدى التقارب المنهجي في رسم العلاقة بين هذه الثنائية (الدين والسياسة) عند عالمين دينيين كانت لهما ظروف متشابهة جعلت الكثير من علماء البلاط والتقليديين يشنون عليهما حروباً تتهمهما بالخروج عن مألوف الدين وطاعة السياسيين، وقد انتهى الأمر بابن تيمية متوفى في سجنه في قلعة دمشق، وبسبينوزا معزولاً فقيراً مهدداً في لاهاي في هولندا، ولكن أفكارهما من أعظم مصادر الإلهام الإصلاحي لقرون طويلة. عادة ما يُطرح تساؤل عند المقاربة بين شخصيتين منتجتين في المعارف الإنسانية عن مدى استفادة المتأخر من المتقدم، والإمكان العقلي لا يمنع ذلك، ولكن البحث في علومهما ودراسة حياتهما قد يغلّب عدم وجود تواصل علمي بينهما، كما هي حال ابن تيمية وسبينوزا، إلا أن هناك بعض الفرضيات تتجه نحو إيجاد تواصل غير مباشر بينهما، منها ما يجعل موسى بن ميمون (ولد 1135م وتوفي 1204) محور هذه الفرضية، فقد عاش في المحيط العربي والإسلامي، واشتهر بأنه أهم شخصية يهودية خلال العصور الوسطى، كما اشتهر كتابه «دلالة الحائرين» بأنه واحدٌ من أهم الكتب التي دوَّنها اليهود، وتشير هذه الفرضية الى أن ابن تيمية نقل الكثير عن ابن ميمون في اقتضاء الصراط المستقيم حول دين الصابئة وفرق اليهود، كذلك يُذكر أن سبينوزا تأثر في دراسته اليهودية بابن ميمون الذي يعتبره مصطفى عبدالرازق من أهم فلاسفة الإسلام على رغم عقيدته اليهودية، فدراسته في الأندلس وخصوصاً لمؤلفات ابن رشد، جعلت هناك جسراً معرفياً انتقل إليه سبينوزا للغرف من ابن رشد مباشرة من دون وسيط، فسبينوزا تأثر في شكل مباشر بابن رشد كما قرر ذلك الدكتور اشرف حسن منصور في بحثه (ابن رشد وسبينوزا وعصر التنوير الأوروبي، الحوار المتمدن العدد 3440، وكذلك اشار حسن حنفي في مقدمة تحقيقه لرسالة اللاهوت والسياسة ص 7)، والفرضية الأخرى تؤكد تأثر ابن حزم الأندلسي من خلال استاذ سبينوزا ومرجعه في الدراسات اليهودية إبراهام بن عازرا الذي تتلمذ في الأندلس وأخذ عن ابن حزم علم مقارنة الأديان، ما سهّل على سبينوزا الوصول المباشر لابن حزم والنهل منه، كما يقرر سعيد كيفايتي في بحثه (دور ابن حزم الأندلسي في تأسيس علم مقارنة الأديان، مجلة التسامح العدد 22) وابن تيمية أخذ عن ابن حزم في كثير من المواضع وأثنى خيراً عليه. ومن هنا أُقدِّر أن التشابه المنهجي بين ابن تيمية وسبينوزا، كونهما تأثرا بمراجع علمية واحدة في ما يتعلق بمقارنة الأديان والتحرر الاستدلالي من ربقة التقليديين، كما هي حال ابن رشد وابن حزم وابن تيمية، فعوامل التوافق بين المنهجين، يمكن أن تشكّل مقاربة معرفية بينهما.فمقصد تأليف ابن تيمية لرسالته (السياسة الشرعية) من أجل «جوامع من السياسة الإلهية والآيات النبوية، لا يستغني عنها الراعي والرعية، اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور» (مجموع الفتاوى 28/245). وجعل الهدف من رسالته كما قال: «وهذه الرسالة مبنية على آيتين في كتاب الله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء: الآيتان 58، 59]. قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور؛ عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك؛ إلا أن يأمروا بمعصية الله» (المرجع السابق 28/245). وضمَّن هذه الرسالة عدداً كبيراً من الرؤى المقاصدية التي أحدثت تغييراً في الفكر السياسي وعلاقته بالديني، منها على سبيل المثال، مناقشة القضايا السياسية المتعلقة باختيار الحاكم وتولي السلطة والعلاقات الدولية بين المجتمع الإسلامي وغيرها من خلال مقاصد الشريعة، والتعامل مع متغيراتها من خلال الفقه المصلحي وقواعد الشرع الكلية، في ظروف الاجتياح المغولي والصليبي. كذلك رأى ابن تيمية أن اختيار الحاكم يحصل بالطرق الفقهية التي ذكرها الفقهاء مثل البيعة وولاية العهد (الاستخلاف)، وبالقهر والغلبة كما هو عند البعض، وينظر ابن تيمية في هذا الموضوع الخطير من زاوية مقاصدية أخرى، وهي أن أساس الاختيار يحصل لمن له القدرة والسلطان ووافقه أهل الشوكة، فلا يرى أيضاً اشتراط عدد من أهل الحل والعقد لصحة البيعة، فسلطة الأمر الواقع التي تحصل بها مقاصد الإمامة هي سلطة شرعية عند ابن تيمية، إلا أنه حدد في جلّ رسالته ضرورة إقامة الدين وتحقيق العدالة مع الجميع، في قوله: «فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا؛ وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه؛ وعقوبات المعتدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه» (المرجع السابق 28/262). كما أكد ضرورة الاستقامة والصلاح بقوله: «وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق، ما نفق فيه جلب إليه، فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة، جلب إليه ذلك، وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة، جلب إليه ذلك، والذي على ولي الأمر، وعليه أن يأخذ المال من حله، ويضعه في حقه، ولا يمنعه من مستحقه» (المرجع السابق 28/268). كذلك له اختيارات في موضوع صفات الإمام وشروط الولاية؛ فقد خرج عما قرره الفقهاء واقتصر نظره المقاصدي على أهمية تحقيق شرطين رئيسين، القوة والأمانة، وقد برزت نظرته المقاصدية في فتواه المتعلقة ببلد ماردين: هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ ذلك أن فيها بعض أعداء الإسلام المحاربين، ويسكنها بعض المسلمين، فكان جوابه مقاصدياً لم يضعهم في أحد القسمين؛ بل جعلها مركبة من دار الحرب والإسلام، يُعامل كل فريق بما يستحقه وفق المصلحة والقدرة على الامتثال. وهنا يتجاوز ابن تيمية التصنيف الفقهي للديار وما يترتب عليه من أحكام؛ فالوضع المعاصر للدول والحكومات لو تم إسقاطه على التصنيف الفقهي للديار لوقع الحرج في التنزيل وأورث حالاً من المواجهة الدائمة مع الدول الكافرة، وهذا مخالف لواقع الناس اليوم والتداخل الكبير في مصالحهم، وارتباطهم بالمواثيق والمعاهدات والأحلاف الدولية، ولا شك في أن محاولة ابن تيمية في تجاوز هذا التقسيم تعطي الفقه السياسي رؤية مقاصدية تضبط العلاقة مع الآخر وفق ثوابت الولاء والبراء ومصالح المسلمين وموازين القوة والضعف في بلدانهم.الأمر الإصلاحي الآخر الذي برز في كتابات ابن تيمية، هو ما يتعلق برؤيته المقاصدية في الاستدلال الفقهي والكلامي بالرد إلى فهم الكتاب والسنّة وعدم الخضوع لآراء المذاهب وتعصبهم لأئمتهم، ما يجعل الخروج عليها كالمخالفة الصريحة للدين، وله رسائل عدة في هذا الباب، مثل الاختيارات الفقهية والحسبة والمظالم المشتركة. وفتاواه المتنوعة تؤكد الاستقلالية الفقهية والتحرر من التقليد المذموم، أما منهجه في مقارنة الأديان فقد تميز بقوة الدليل النقلي وإقامة الحجج العقلية وإثبات التناقض بين كتبهم المقدسة.أما سبينوزا في السياسة واللاهوت فقد وضع لنفسه هدفين؛ الأول إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطراً على الإيمان، والثاني أثبت أن حرية الفكر لا تمثل خطراً على سلامة الدولة، كما استقرأ ذلك حسن حنفي في مقدمته للكتاب (ص 13)، فمعايشة سبينوزا للنظم السلطوية اللاهوتيه والسياسية واقترابه منها مكّناه من رسم نظريته حول حرية العقل وبالتالي الفرد، الذي لا يخضع للخرافة ولا توضع عليه القيود للطاعة والاستعباد، فالايمان الصحيح دعوة الى الروح والسلام والتضحية، ولكن هذا الوحي تحول في الكنيسة إلى مجتمع تسوده المظهرية والتعصب والكراهية، وعلى المستوى السياسي حذّر سبينوزا