يستعصي عليك أن تتفهم كيف يتصدى أحد الأقلام أو أحد الوجوه التلفازية للتنظير في القضايا المعرفية ذات البعد الشرعي في الوقت الذي هو لا يجهل فقهيات الدال والمدلول ومناطاتها ومقاصدها جهلا مركبا فحسب بل هو يجهل حتى أبسط الأبجديات الأصولية والبداهات المنهجية التي يفترض توافرها في كل قراءة ذات بعد تأصيلي ممنهج!. في الواقع الإعلامي لم يظل الباب كما السابق مفتوحا على مصراعيه, بل الآن لم يعد ثمة باب بل تمت إزالته فالأسوار هُدمت والحدود تم تقويضها وعلى نحو عزز فرص التطاول على المعرفة وابتذال أدواتها فبتنا أمام ألوان من التنظير الفوضوي غير الخلاق وأضحت الساحة رحبة فتجشم عناء التنظير- إن كان ثمة عناء هنا!- كثير من ذوي الوعي المعرفي المنخفض, هذا الوعي مشكلته ذات طابع مزدوج, فهو يتعاطى مع مفردات المعرفة بفهم متخم بالبدائية الحادة حتى إنه قد لا يتقن قراءة النص قراءة صحيحة نائية عن الخطأ واللحن هذا من جهة ومن جهة أخرى هو يتعاطى مع المعرفة عبر آليات قرائية صادرة في أصل انبعاثها من الفكر الاستشراقي أي أنه هنا يتكئ على وسيط تأويلي مفتقر لأدنى سمات الحيادية! هذا المُنَظر الذي يتوهم أن لا أحد يفري فرية ونتيجة لارتكاسه في مستنقعات الجهل لا يعي أنه بهذا السلوك- الاعتماد على الرؤية الاستشراقية الفاقدة للحياد– يجرد العلم الشرعي من كافة قيمه المعيارية الحاكمة أي أنه يحد من حضور الدلالات المعتبرة, لكنه ومن جهة أخرى هو وبهذا الاندفاع الأهوج يقدم خدمة من حيث لا يعلم لأنه يستدعي الفكر الآخر الموغل في الانحراف العقدي ويعرضه أحيانا وبكل بشاعته المنفرة وبصراحة مستفزة تضمن استنفار المتلقي ضد هذا الفكر وبالتالي يتولد حالة من المقاومة التلقائية التي تجعل هذا الفكر في مهب الريح تماما كما الشجرة التي اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار، وهكذا تبدو تلك الأفكار أمام النسيج الاجتماعي أفكارا تافهة ومقززة بل ومجرد عرضها كاف في تصور بطلانها كما هي عبارة ابن تيمية رحمه الله ومن المعلوم أن الأفكار المضادة لما هو مستقر في بنية الوعي العام سينفر منها هذا الوعي بفطريته وخصوصا حينما تعرض بطريقة ساذجة ومصادمة الى درجة الاستفزاز كما يفعل كثير من مهووسي الأضواء الخائضين في أخطر القضايا بلا علم ولا تأصيل منهجي مدلل ولو وعى أحدهم حجم ما يتلبسه من جهل مكثف لتوارى من القوم من سوء ما ظهر به ولفكر وقدّر ووازن قبل أن يبوح بما يترفع عنه أولو الألباب. الكثير من هؤلاء لا يفتقد المعرفة المحضة فقط بل هو يفتقر حتى الى القوالب والصياغات الاسلوبية المتكئة على اللغة الترميزية وبالتالي هو ليس بمقدوره الالتفاف على الفكرة وتقديمها بطريقة تضمن لها قدرا من التفاعل العفوي والاستجابة الطوعية العامة أو على أقل تقدير الحد الأدنى من القبول والرواج في أوساط الجماهير! ولا تعجب فالخصم الجاهل قد ينفعك من حيث أراد أن يضرك, فهذه الأفكار التي يريد تسويقها هو يئدها من حيث يريد ولادتها, إنه يميتها من حيث يريد إحياءها وبالتالي هو يكفيك عناء النقد والنقض وتجشم عناء التفنيد المعرفي!