كان يُشاهد نشرة الأخبار، وحيث السياق في تلك النشرات عن الحروب والدمار، فرئة الإعلام لا تتنفس إلا من خلال الإثارة التي لا تتوفر إلا في مواطن الصراع أو التنافس. كان المذيع يصف حالة الحرب، حيث ردد أن القصف كان "بنيران صديقة" تلك الكلمة أخذت صاحبنا إلى المفارقة العجيبة، فكيف نجمع بين النار والرصاص والصداقة والحُب، فتلك جملة مركبة متناقضة لكنها ساقته الى أبعد من ذلك. حيث بدأ يُفكر بحياته ويسترجع شريط الذكريات فكم من نيران آتته من الأصدقاء وكم من النكبات والخذلان ولجت إلى رحابه عبر بوابة الرفقاء. كان يحمل في داخله غصة مرة، حيث شرب العلقم من أقرب الأصدقاء، ولم يجد الاخ الذي لم تلده أمه إلا في اثنين أو ثلاثة من أصدقائه الذين لا حصر لهم. تُولد الحكمة من رحم التجارب، ولقد خرج من تجاربه وعلاقاته بعصارة مهمة نستطيع جميعاً أن نطبقها كقانون من قوانين الحياة في بند العلاقات. فالثابت أننا نستعجل في إلباس من نعرفهم لقب صديق، وهذا اللقب غال وله شروط ومقتضيات وعلامات لا تتوفر إلا في القليل من الناس، فالصداقة ليست علاقة عابرة أو معرفة طارئة أو جماعة اجتمعوا من أجل عمل معين أو مصلحة محددة، وليست جماعة من الناس قربوا منك وقت القوة وانصرفوا عنك حال الضعف، وليست أعدادا في مواقع التواصل الاجتماعي. ولهذا فالكثير من الطعنات التي نتلقاها حقيقة من الناس ليست إلا من المعارف العامة التي استعجلنا في تنصيبهم أصدقاء ووضعنا رقابنا بين أيديهم في غفلة واندفاع عاطفي!! وهذا الذي يفسر لنا وصية الحكيم لابنه، حين قال له كل هؤلاء الجمع أصدقائي، فرد الحكيم على ابنه: أصدقاؤك لن يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة!! وفعلاً بعد زمن عندما وقع في مشكلة انصرفت الجموع، وبقيت القلة القليلة معه في أزمته. لا بد في هذا الزمن أن نفرق بين المعارف والزملاء وبين الأصدقاء، بين الوصوليين وبين المخلصين، بين من نراهن عليهم ونعمق العلاقة معهم، وبين من نعاملهم بالمعروف ونحافظ على علاقة سطحية معهم، ونحرص أن نجمع بين حسن الظن المغلف بالحذر المتوازن في علاقاتنا مع الناس، فليس كل من يضحك لك يُحبك، وليس كل من يمدحك يهمه أمرك، وليس كل من قرب منك هو صادق الود لك. فالناس في تقلب شديد، حيث تحول الأمزجة والظروف والأحوال والأفكار والمصالح، ولهذا تقع الكثير من مشاكل الشركات المالية أو الخلافات العائلية أو الفشل الزوجي أو اضطراب العلاقات؛ بسبب التسرع في الحكم على الناس وعدم إمعان النظر في جوهرهم، والانخداع بالمظهر الذي لا يسلم من المساحيق والأقنعة. فيكون الاندفاع في العلاقة وعدم التوثيق والكتابة ويصل حسن الظن إلى مرحلة التفريط بالحقوق والتنازل عن كل شيء. المؤمن كيس فطن، لا يُدخل إلى دائرة علاقاته إلا شخصاً اجتاز الكثير من الاختبارات، مثل: اختبارات السفر المشترك أو التعاملات المالية، واختبارات الصلاح والأمانة، ولا تنس أن من ليس له خير في نفسه ووالديه وأهله فلن يكون له خير معك أو مع غيرك.