ما يحدث في الشقيقة مصر أمر لا يصدّقه العقل.. وما يجري للمرابطين في (ميدان التحرير) أمر لا يقبله منصف.. فهم يتعرّضون لأشد ألوان التنكيل والتعسّف على أيدي عتاة الإجرام، وعصابات المافيا المحلية المسنودة من جهات معينة، والممولة من بعض رجال الأعمال الذين امتصوا دماء المصريين، وأحرجوا النظام ليصل إلى موقف لا يُحسد عليه، حتى تصاعدت الأحداث لتصل إلى ما وصلت إليه من انتشار الفوضى، وتفشّي (البلطجة) والتأزم بين كل الأطراف، لتدخل هذه الأحداث في نفق التكهّن بما قد يأتي به الغد، بعد كسر شباب مصر حاجز الخوف، فلم يعد يشكّل للمصريين هاجساً ملحاً، مما دفعهم ليواجهوا بصدور عارية رماح الغدر وسهام الخيانة من أبناء جلدتهم الذين واجهوا الحق بالباطل، من خلال إصرارهم على بقاء مصر في الحضيض، مع إدراكهم التام أن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود للوراء، مهما اشتدت قسوة الظروف، وتصاعدت وتيرة الأحداث، مع الإيمان الكبير والثقة التامة بأن في مصر من العقلاء من هم جديرون بقيادة سفينتها إلى برّ الأمان.. لتتجاوز محنتها الراهنة، بما يضمن أمن وسلامة مصر والمصريين. عالمنا العربي مدعوّ ليس للتفرّج على هذه الأحداث ومتابعة تفاصيلها فقط، ولكن للتأمل بوعي ومسئولية في هذا الدرس البليغ، ودراسة تبعاته على الواقع العربي، وإدراك ما يمكن ان يفرزه من نتائج اقتصادية وسياسية جديرة بأن تكون محل بحث وتحليل، لمواجهه ما بعد هذه الأحداث التي تشكّل حالة مفصلية في تاريخ المنطقة. إذا تألم مصري واحد تألمت له الجماهير العربية التي تشاركه طموحه وتطلعه المشروع للأمن والرخاء والحرية والديمقراطية، وإذا ألمّ بمصر أمر جلل، فإن تبعات ذلك تمتد إلى كل البلاد العربية، إن لم نقل لكل العالم، فمصر ليست دولة مجهولة أو قليلة الشأن، وتاريخها النضالي الذي سطرته أجيالها على صفحات التاريخ بماء الذهب.. معروف لدى الجميع، ودور أبنائها التنويري في العالم العربي لا يمكن تجاهله، وثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي والبشري والحضاري.. لا يمكن أن ينظر إليه إلا بكل الإكبار والتقدير الذي يستحقه بجدارة، وشعب مصر هو صانع المعجزات، ومنذ بناء الأهرامات العظيمة، حتى بناء الأزهر الشريف، وتأميم قناة السويس، وتشييد السد العالي.. كانت ولا تزال للشعب المصري إنجازاته التي رفعت رؤوس العرب والمسلمين، وتصدّى لقوى الغدر الغاشمة، والمؤامرات الظالمة التي تُحاك ضده في الداخل والخارج، فواجهها ببسالة نادرة، وأحبط كل مخططاتها من خلال معركة الجلاء، وصدّ الاعتداء الثلاثي على السويس، وخوض حروب الاستنزاف، وإنجاز ملحمة العبور، وفي سبيل ذلك دفع الكثير من دماء أبنائه، وتحمّل الكثير من الخسائر المادية والأمنية جراء تلك الحروب، وما تثنه عن عزمه يوماً أسوأ الظروف ولا أقسى العقبات. نحن في عصر لم يعد فيه التسلط مقبولاً، ولم يعد فيه حرمان المواطن من حقوقه مبرراً، ولم يعد فيه القرار محتكراً على فئة من المواطنين دون غيرهم، ولم يعد فيه الفساد قادراً على الهروب من مواجهة المساءلة والعقاب، بعد أن أصبح الإصلاح مطلباً جماهيرياً مشروعاً وغير قابل للمساومة أو التسويف، لكنه الإصلاح الذي لا يؤدي إلى الدمار، ولا يقود إلى ترويع الآمنين، وانتهاك الحرمات، وتدمير المنجزات الوطنية، من أجل إرضاء الانتهازيين والمتاجرين بقضايا شعوبهم، حتى لا تتحوّل أداوت الإصلاح إلى خناجر تغتال المواطنين في غفلة من التاريخ، وفي هذه الحالة لن يكون الإصلاح إصلاحاً، بل فوضى تأتي على الأخضر واليابس، ليدفع الوطن والمواطن الشريف ثمناً لا يعادله ثمن، وخسائر لا تدانيها خسائر، وليصبح بعد ذلك طريق الإصلاح شائكاً يستحيل عبوره، ونتائج هذه الأحداث لن يتحمّلها الشعب المصري وحده، بل إن آثارها ستمتد إلى مساحات إقليمية ودولية شاسعة، ولأجيال عديدة قادمة. في مصر يسجّل الشباب ملحمتهم الجديدة، ليعيدوا إلى الذاكرة ملاحم أخرى سجّلها تاريخ مصر الجديد والقديم، ليكون التاريخ والعالم كله شاهداً على التحوّل التاريخي لشعب أراد الحياة، فنالها بشرف النضال، وقدسية التضحية، ونُبل الهدف، دون ان يكون للمتسلقين والانتهازيين فضل في الوصول إلى غاياته المنشودة، بعد أن أينعت ثمار إرادته الصلبة وحان قطافها على أيدي أولئك الشباب، دون أن يكون للسياسيين والساعين إلى السلطة.. حق الإصرار على جني ثمارها والقفز على نتائجها لتحقيق مآرب أخرى. عالمنا العربي مدعوّ ليس للتفرّج على هذه الأحداث ومتابعة تفاصيلها فقط، ولكن للتأمل بوعي ومسئولية في هذا الدرس البليغ، ودراسة تبعاته على الواقع العربي، وإدراك ما يمكن ان يفرزه من نتائج اقتصادية وسياسية جديرة بأن تكون محل بحث وتحليل، لمواجهة ما بعد هذه الأحداث التي تشكّل حالة مفصلية في تاريخ المنطقة. [email protected]