مع بداية كل عام هجري جديد تتجدد ذكرى الهجرة النبوية الشريفة من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة، ذلك الحدث التاريخي المبارك الذي شعت أنواره وعم خيره وجاء رحمة للعالمين بما تضمن من قيم وما رسخ من عقائد التوحيد والعبادة الخالصة لله وأحكام الشرع الأغر الذي أقام الميزان في الأرض تحت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله. تتجدد الدروس والعبر والآيات والمعجزات بما يثري الحياة بالعلم والحكمة والخبرة من منهل السيرة النبوية العذب المبارك، يرفدها كتاب الله المجيد وحديث المصطفى الكريم، ثلاثة عشر عاماً أعقبت ذلك الحدث التاريخي المدوي في سمع التاريخ وما زالت أصداؤه حتى اليوم. تصرم الزمن ومرت مئات الأعوام وعشرات العقود والهجرة النبوية تفيض بالخير وتشع بالنور، بعد ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثين عاماً تتجدد الذكرى، وتدخل في عام جديد لتحيي في النفوس معاني الصبر والعزم والطهر والنقاء وسعة الأفق وقوة الأخلاق وقيم التسامح والصفح والثقة في الله، والترفع عن المصالح الشخصية والمماحكات الآنية ابتغاء وجه الله والدار الآخرة والسعي لإنقاذ البشرية من الجهل والظلم والأنانية. إنها رسالة الإسلام المرتبطة بالحق الذي يعلو ولا يعلى عليه مهما استبد الظلم وظهر الفجور والزيف والدجل وبات للشر سطوة وللباطل دولة. تظل ثلاثة عشر عاماً التي عاشها المصطفى الكريم بعد هجرته للمدينة، وما سبقها منذُ مولده الميمون المبارك حتى زمن بعثته المدوي في أرجاء السموات والأرض، إذ تنزل عليه القرآن الكريم في غار حراء السامق، وقد حُرِسَتْ السماء من مسترقي السمع هذا الحدث وما تلاه من أحداث هزت العالم بأسره، وهزت شجرة الحياة بحيوية النبوة وثمرات الرسالة اليانعة المغدقة عبر التاريخ الإسلامي المشرق بقيم العدل والبر والإحسان، التي انتشرت في أرجاء المعمورة وبلغت مبلغ الشمس والليل والنهار. يظل ذلك السجل الناصع الذي كتبت أحرفه من نور مدرسةً للأخلاق واستمداداً لقوة الحق والعلم والنور، ويظل التاريخ الهجري الرمزَ الملهم العبقري الهادف الذي يربط حاضر الأمة بماضيها. تنثال التوجدات بغزارة وشجن وترتسم في الذهن الأمكنة والأزمنة؛ مدارج النبي وظروف النبوة ومنابر الرسول وختم الرسالة، وتنزل الرحمة ومراكز إشعاعها ومنطلقات شيوعها في آفاق الحياة والزمن؛ يرتسم في الذهن ذلك الجبل الأشم المهيب جبل النور المتسربل بالجلال والطهر والنقاء والصفاء، وهو يستقبل كلام الله وكأنه يرتفع للملكوت الأعلى أو كأنما تتنزل عليه الملائكة والروح، ويتألق في آفاق الرفعة والجلال والأنوار تفيض منه، وتشع فيما حوله في هالة قدسية تتدفق على الكعبة المشرفة والمدينةالمنورة وتنير الآفاق واصلة ما بين الأرض والسماء بله الكون كله... يعرض للوجدان غار حراء بمهابته وشموخه وطهره، وقد شَرُفَ بالوحي ابتداءً وتناهت إليه في الحاضر أصداء البيت الحرام بتلاوة القرآن الكريم وتعانقت أنواره بأنوار الكعبة المشرفة؛ صور تختزل التاريخ في ومضة والزمان في لحظة منذ الأمر الإلهي بالقراءة والإشادة بالقلم والعلم والتعليم، حتى تم الاضطلاع بالرسالة العظمى رسالة العلم والتعليم والنور والإكرام. واكتمل البنيان الحضاري لأمة الإسلام وغدت تشق عنان السماء الآيات والتكبيرات من مآذن الحرمين الشريفين وسائر المساجد والجوامع في شتى البقاع والأصقاع، حتى لا تمر لحظة من الوقت إلا والآذان يرتفع لعنان السماء على مدار الأربع والعشرين الساعة وفق ما رصدته الدراسات والتقارير العالمية. إنها الرسالة الخالدة التامة الكاملة التي حمل لواءها خير خلق الله وأزكاهم المصطفى الصادق الأمين، نبياً مرسلا وهادياً ومبشراً ونذيراً وسراجاً منيراً ورحمة للعالمين، تسافر الروح في الزمان المقدس والمكان المقدس منذ درج محمد بن عبدالله ببطحاء مكة وهاجر للمدينة ليقيم صرح الإسلام، ومنذُ نشأت بين كفيه الزكيتين النبتة المباركة نبتة الثقافة وانطلقت بين يديه مسيرة الحضارة الراشدة حضارة الإسلام إنسانية الخلال مدنية التقنيين والتشريع عالمية العلم والمعرفة. ذكرى الهجرة تزخر بهذه المعاني والدلالات مثلها مثل بستان يانع الثمرات طيب التربة تتفتق أكمامه بأزهى الألوان، وتعبق أزهاره ووروده بأريج الروح الشفيفة والفكر المستنير. بالفعل يحل كل عام هجري جديد كالحديقة الغناء والبستان الخصيب الزاخر بالرواء والظلال والعطاء، وكأنها مأدبة تهبط من السماء بالسلوان والرضوان. يأتي العام الهجري الجديد ليحيي في النفوس الدروس المتنوعة التي تغطي الجوانب الفكرية والعلمية والثقافية والاجتماعية والنفسية في تكامل رشيق وتوازن بديع؛ مثل خالدة وقيم أصيلة تعزز الشعور بالوجود الخير والتواصل الحضاري النبيل؛ تكمن في هجرة المصطفى - صلى الله عليه - وسلم معاني الحق وقيم الخير والسلام والقوة المعنوية المتصلة بحقيقة الوجود ومعنى الحياة ورسالة الإنسان في الحياة، ففي كل خطوة على طريق الهجرة درس وموعظة وعظة وعبرة، تصدر عن قيمة حقة وتؤسس لمبدأ إنساني نبيل، وتكشف عن سنة من سنن الله في النفس والوجود، حفلت بها أحداث السيرة وسطرتها كتبها باستفاضة وتفصيل دقيق، بيد أن المرتكز الأساس في ذلك كله والذي هو حقيقة الهجرة وعاقبة أمرها هو الهروب للسلام في أرض السلام بلغة السلام ومن أجل السلام، يشهد لهذه القيمة الأصيلة وذلك المبدأ الإنساني السامي النبيل وتلك السنة الإلهية الماضية قوله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا) ثقةً بالله اللطيف الخبير، وقصة أم معبد وانبهارها بمرور المصطفى وصحبه بخيمتها، ووصفها لما رأت وتلك الأشعار التي ترامت بها أصداء جبال مكة لتودع الطاهر المطهر. (رفيقين حلاَّ خيمتي أم معبد جزى الله رب الناس خيرَ جزائه فقد فاز من أمسى رفيق محمد هما نزلاها بالهدى واهتدت به) وحادثة سراقة الذي أقبل بنية العدوان والطمع في حطام الدنيا، وانكسرت أطماعه لهول ما رأى فعاد مسالماً منتظراً وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له بأسورتي كسرى التي تقلدها لاحقاً. قيم تترا ومبادئ تتعانق، حتى إذا شارف الركب الميمون مهاجر المصطفى شرع في بناء مسجد قباء، ثم المسجد النبوي الشريف إيذاناً بتكوين مجتمع مدني زاهر، وإرساءً لقيم العمل والعمل المؤسسي الحضاري. ستظل وقائع الهجرة النبوية وأحداثها براهين حق ومعالم هداية وقيم خير وحضارة وسلام، ثم إنه في كل عام هجري جديد يهل هلاله، تعبق الروح بمتعة الذكرى واستلهام السيرة النبوية العطرة، كالمرافئ على بحور العلم والمعرفة وكالشرفات على الفضائل والمكارم والمحامد، ترفد الثقافة الفردية والاجتماعية قيماً وسلوكاً وتصقل الشاعرية بالذكريات الماجدة الخالدة؛ (وللمرء في ذكرياته مجد مخلد). * عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة - الرياض - سابقاً