من غزّة، القطاع المنكوب أكثر من مرة، الذي تعرض لأعنف عدوان همجي، تكرّر خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلى القاهرة.. العاصمة المصرية التي شهدت أكبر مؤتمر دولي لإعمار القطاع المغلوب على أمره، في مشهد على طبق من ذهب، أعاد الثقة السياسية للمصريين، الذين عانوا بالمقابل، نتائج لعبة شد الحبل العصيبة، بين نظام ما بعد ثورة 30 يونيو، وبين قوى وأطراف إقليمية ودولية، طالما راهنت على فشل ما اعتبرته "انقلاباً" على حكم جماعة الإخوان المسلمين. فالأنظار والخطوات التي اتجهت صوب فندق «جي دبليو ماريوت» بالقاهرة الجديدة مقر "مؤتمر القاهرة الدولي حول فلسطين إعادة إعمار غزة"، الأحد الماضي، كانت تضع أمام عينيها وهي تخترق التكثيفات الأمنية المشددة مخاوف مشبعة بالثقة وروح الانتصار السياسي، في وقتٍ باتَ أكثر حساسية، في القاهرة بالذات. دروس الخوف والفشل المخاوف لم تكن أمنية بحتة هذه المرّة، ولم تكن ترتبط بمحاولات تشويه المشهد الذي جمع لأول مرّة منذ 30 يونيو 2013، نحو 30 وزير خارجية، و50 وفداً دبلوماسياً من مختلف دول العالم، إضافة الى ممثلين عن 20 منظمة دولية وإقليمية.. إضافة لحضور للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والرئيس الفلسطيني محمود عباس. وأمين عام جامعة الدول العربية نبيل العربي، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون، ومبعوث الرباعية الدولية للشرق الأوسط توني بلير، إضافة إلى صندوق النقد الدولي، ولكن الخوف الأكبر كان في تكرار فشل مؤتمري باريس (ديسمبر 2007) وشرم الشيخ (مارس 2009) واللذين خُصصا لدعم الاقتصاد الفلسطيني وقطاع غزة تحديداً. المصريون الذين يبدو أنهم وعوا درس الفشل السابق، حيث إن قرارات المؤتمرين لم ترَ النور؛ بسبب عدم فتح معابر القطاع من جهة، وبسبب خلاف سياسي بين حماس والسلطة الفلسطينية، حول الجهة التي ستدير إعمار القطاع، لا يزالون أيضاً يأملون في ترجمة المحاولة الجديدة على أرض الواقع فعلاً، ولا تتحول إلى مناسبة لاستعراض العضلات الخطابية، التي سرعان ما تتبخر في الهواء. الثقة والمناورة الثقة المصرية جاءت هذه المرّة على وقع حربِ أعصابٍ طويلة المحتوى والمدى، لم يتأكد بعد، ما إن كانت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" قد استسلمت فعلاً للأمر الواقع، بعد قبولها حكومة الوحدة الوطنية، بعد أن خسرت حليفها الأيديولوجي في مصر، وهو جماعة الإخوان، أم أن الحركة ستستعيد زمام المناورة بشكل آخر، بعد قليل، وهي التي تعلمت مراراً درس الانحناء للعاصفة؟ ورغم أن "حماس" التزمت الصمتَ، قبيل المؤتمر، ولم تعلق بشكل رسمي على النتائج، واكتفت بعده، بتوجيه الشكر على لسان رئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل، ل"قطر"، وقبله اضطرت ل"تجرّع السم" معترفة بدور غريمها "المصري" في إنجاز اتفاق التهدئة مع إسرائيل، بعد قرابة شهرين من العدوان، واستسلمت مجدداً للشروط المصرية التي يعتبر محللون سياسيون في العاصمة المصرية أنها قلصت كثيراً من نفوذها، ومحاولتها احتكار إنجاز اتفاق التهدئة. الاخوة الأعداء المصريون، عبر نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي، تعاملوا مع "حماس" بعين القلق والريبة والشك، بعد إعلان الحركة الصريح عن دعم نظام حكم جماعة الإخوان، وما تردّد أيضاً عن تورطها في قضية فتح السجون، ومساعدة الجماعات الإرهابية في التسلل للأراضي المصرية، والمشاركة في عمليات عنف، وهي جميعها اتهامات منظورة أمام القضاء، بالتزامن مع قضايا أخرى متهم فيها قادة جماعة الإخوان، والرئيس الأسبق محمد مرسي. القرار المصري غير المعلن، وفق ما سرّبه مصدرٌ نافذٌ في الدبلوماسية المصرية، كان مفاده بأن القاهرة "لن تسمح بوجود أي نظام مؤيد للإخوان على حدودها"، ولأن "حماس" الواقعة أيديولوجياً في خانة الانتماء للجماعة المحظورة في مصر، سقطت في الأزمة المصرية، دون إدراك لخطورة ما اعتبره نفس المصدر اللعب بالنار، واستفزاز الأسد الجريح، والذي أنهك خلال ثلاث سنوات هي عمر الموجات الثورية التي انتابت البلاد منذ 2011. تطور غير مسبوق وتطورت الأزمة بين "الحكومة المقالة" وبين القصر الرئاسي في مصر الجديدة بشكل غير مسبوق، خاصة مع المقترح المصري ببنود اتفاق للتهدئة، ووقف العدوان، ورأى كثيرون أن عدم استجابة حماس، التي كانت تسيطر فعلياً على القطاع، ورفضها للاتفاق فاقم الأزمة التي اشتدت مع زيادة أرقام الضحايا، بالتزامن مع هجوم إعلامي شرس قادته "حماس" ومناصروها، وصل حد اتهام مصر بالخيانة، وتعرض الرئيس السيسي شخصياً لهجوم قاس وعنيف. المصريون بالتالي لم يسكتوا، وظهرت أصوات إعلامية محدودة، وصلت في تطرفها حد التصفيق لما يحدث في غزة، في سابقة هي الأولى في التاريخ المصري، واكبتها حالة من "البلادة" الشعبية تجاه الأحداث، وبدت الشوارع المصرية لأول مرة أيضاً خالية من أي بذرة تعاطف مع المحنة الفلسطينية، ما أثار علامات استفهام واستغراب كثيرة. الأمر الذي يعني خطورة لا يُمكن تصديقها، لتعود بعض الأصوات العاقلة لتحاول التفريق ما بين حماس كخصم إخواني أصبح شديد الكراهية، وما بين شعب لا يُمكن إهدار التضحيات والدماء التي أريقت من أجل قضيته. إنقاذ للطرفين مؤتمر الإعمار، الذي احتضنته القاهرة، جاء إنقاذاً للطرفين، فالفلسطينيون يرون أن النجاح لا يتوقف على عقد المؤتمر أو جمع الأموال، بقدر ما يتوقف على اتفاق ناجح لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، من أجل بدء عملية طويلة تستغرق سنوات من دون اعتراضات إسرائيلية، من شأنها عرقلة إدخال الأموال ومواد البناء إلى القطاع، من ناحية، ومن جهة أخرى، لتشجيع الدول المانحة، التي تريد التأكد في نفس الوقت، من أن أموالها لن تكون في مهب غارات إسرائيلية جديدة بعد عامين أو ثلاثة.. والأهم ثالثاً هو تكريس السلطة الوطنية بقيادة محمود عباس وتجنيب حماس تماماً. أما مصر، فترى في مجرد حشد دولي بهذا الحجم والضخامة، ليس سوى إقرار دولي مهم بدور القاهرة، وترسيخ لدولة ما بعد 30 يونيو.. إضافة إلى أنه استعادة لدورٍ اعتبرته القاهرة "مفقوداً" منذ سنوات. واستغل كثيرون الغياب المصري للعب أدوار مفصلية، كان بعضها يمثل استفزازاً لمصر وانتقاصاً من مكانتها وربما ريادتها أيضاً. اتفاق ونافذة عن الرأي الأول، وصف المتحدث الرسمي باسم حركة فتح، أحمد عساف، نتائج المؤتمر ب"الجيدة". معرباً عن أمله في أن تسهم خطة الإعمار الدولية في إعادة الاستقرار للقطاع المنكوب. عسّاف، في تصريح ل(اليوم) الاثنين الماضي، اعترف بأن غزة "كانت مخطوفة ومقهورة"، وأنه لا سبيل إلا عودة السلطة الشرعية حتى تتمكن من إنجاح الوحدة الوطنية ورفع المعاناة عن أهل غزة. وأضاف: إن مؤتمر المانحين الذي عقد بالقاهرة لن يدفع منه شيء من المبالغ التي أقرّت من الدول المانحة إلا بوجود حكومة وطنية يعترف بها العالم. وشدد عساف على أن أبا مازن كرئيس السلطة الفلسطينية قرر إعادة الامور إلي نصابها، ودعا إلى ان يكون هذا المؤتمر هو آخر مؤتمر يضع خطة سياسية لإنهاء الاحتلال بسقف زمني محدد، مشيراً إلى ان "اعتراف عدد من الدول بالسلطة الفلسطينية يدعم الموقف والحقوق التاريخية"، التي فتحت بابها السويد، ثم بريطانيا، وسيكون نافذة إلى اعتراف أوروبي. نفس الأمر، كرره عضو القيادة الفلسطينية واصل أبو يوسف، الذي اعتبر إعمار غزة "عملية تحتاج إلى وقف العدوان على غزة واتفاق طويل لوقف النار" مؤكداً: "من دون اتفاق يبدو الأمر مستحيلًا". انتصار مصري وعن الرأي الثاني، تحدث نائب رئيس جهاز الأمن الوطني السابق، ورئيس مجلس إدارة المركز المصري للبحوث والدراسات الأمنية، اللواء عبدالحميد خيرت، الذي قال: إن استضافة مصر لهذا الحشد الدولي تؤكد استعادة القاهرة لروحها الريادية، رغم كل محاولات التشويش، من قبل جماعة الإخوان، وخفافيشها المنتشرة حول العالم، في تلميح إلى حماس، التي اتهمها أيضاً ب"تنفيذ نفس أجندة انقلاب جماعة الإخوان التي تتبعها على الإرادة الشعبية، وركوبها على موجة 25 يناير الثورية، وتصديرها على أنها الحقيقة الوحيدة في احتكار الدين والسلطة"، مشيراً إلى أن "الجعجعة" الفارغة التي أسقطت مئات الضحايا في مصر هي نفسها التي "أسقطت أيضاً المئات في غزة، دون ثمن أو مبرر أخلاقي أو سياسي". وختم خيرت في مقال له بالقول: إن الرئيس السيسي نجح في فرض نفسه كزعيم ولاعب إقليمي مهم، قبل أن يكون رئيساً مكتسباً من صورته التي رسخها لمصر. وأضاف: إن "المؤتمر الأخير، بقدر ما كان مؤتمراً عالمياً لإعمار غزة جرّاء عدوان فاجر، إلا أنه كان بمثابة شهادة إعمار لمصر، وإدراكٍ لصورتها وقيادتها الجديدة، التي لن يُزايد عليها أحد". صراع الإعمار انتهى المؤتمر بنتائجه الشهيرة، ومن أهمها الاتفاق على وضع قرابة 6 مليارات دولار لتنفيذ خطة الإعمار للقطاع المنكوب، وكذا تأكيد على التعامل مع السلطة الفلسطينية، ولكن هل يعني هذا انتهاء فعلياً لدور حماس. كافة التقديرات تنفي أن تقبل حماس بهذا "الكارت الأحمر" خاصة مع تسريبات بوجود انقسام بين حكومة التوافق الفلسطينية وبين حركة حماس، فحكومة رامي الحمد الله تقدم نفسها على أنها العنوان الرئيس لإعادة إعمار غزة، لكن ذلك لا يبدو رأي حماس، التي أعربت عن رغبتها في المشاركة في الإشراف على إعمار غزة عبر هيئة مستقلة تساعد السلطة. وهذا في حد ذاته معضلة؛ لأن مشاركة الحركة ليست موضع ترحيب غربي، وأوضح مثال هو ما صرح به وزير الخارجية النرويجي بورغي بريندي، الذي أشرفت بلاده على مؤتمر المانحين، إذ أكد أنهم لن يتعاملوا سوى مع الرئيس محمود عباس فقط، وأن الأموال التي ستجمع برعاية مصر والنرويج ستوضع تحت تصرف رئيس السلطة الفلسطينية. المعارضة الأخرى، تقليدياً كانت من إسرائيل، التي قالت: إن إعمار القطاع يجب أن يحدث عبر السلطة الفلسطينية فقط بعد إيجاد آلية لمراقبة الأموال ومواد البناء وضمن اتفاق سياسي. باختصار.. كسب الجميع.. وخسرت حماس!!