وزائرتي كأنَّ بِها حَيَاءً فليسَ تزورُ إلا في الظَّلامِ بذلتُ لها المَطَارِفَ والحَشَايا فَعَافَتها وباتتْ في عِظَامِي عوداً على بدء، واستكمالاً لذلك الحديث الجميل عن "الحمى" التي خلَّد وصفها أبو الطيب المتنبي في قصيدته الرائعة بعد أن أصابته أثناء إقامته في مصر، فصارت تغشاه ليلاً وتُدبر عنه إذا طلع النهار كحالها المتعارف عليها لدى سائر البشر، وللقصيدة قصة جميلة يطيب لي أن أدعوكم لقراءتها، وحسبي وحسبكم أن هذه الرائعة من روائع المتنبي قد قادتني للتعرف على ما لم يكن يدور في حسباني من منافع وإيجابيات "الحمى"، ذلك العرض الذي لا يكاد يخلو منه مرضٌ من الأمراض برحمةٍ من الخالق جلَّ في عُلاه. يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً وداؤك في شرابكِ والطَّعامِ ومَا فِي طبِّه أنِّي جوادٌ أضرَّ بجسمهِ طولُ الجمامِ اسمحوا لي أن آخذكم إلى رِحلة جميلة في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المُعجز علمياً ولُغوياً عبر ما قرأت: ففي صحيح البخاري عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )، فالعلم الحديث أثبت ظاهرة التداعي والانهدام التي تحدث في الجسم البشري حال المرض والإصابة، فحين يصاب عضو من الأعضاء بجرح أو مرض فإن هذا العضو يشتكي ما ألم به - شكوى حقيقية لا مجازية - وتتمثل هذه الشكوى في إشارات تنبعث منه إلى مراكز الجهاز العصبي الرئيسية التي تتحكم في وظائف الأعضاء، فتستجيب هذه المراكز بإرسال الأوامر إلى الغدد والأجهزة الحيوية، فتحدث حالة عامة من الاستنفار لتوجيه جميع الطاقات والعمليات الحيوية لخدمة العضو المصاب وإمداده بما يحتاجه لمواجهة المرض، بدءاً بمحاصرة مصدر الخطر وكفَّه عن الانتشار ومن ثم القضاء عليه إن أمكن، ثم تحقيق الالتئام حتى يعود العضو إلى حالته الأولى. وهذا التداعي يتحقق بالسهر والحمى كما ورد في الحديث، والسهر لا يعني يقظة العينين والذهن فحسب، ولكن يقظة جميع أجهزة الجسم وأعضائه وعملياته الحيوية، حتى إنها لتكون في حالة نشاط دائم وسهر مستمر، والسهر بمعناه الوظيفي (الفسيولوجي) يعني نشاط الأعضاء في وقت يفترض أن تنام فيه، وهو ما يحدث حال المرض وبعد العمليات الجراحية، وبصورة مستديمة طوال ساعات الليل، وحتى لو أغمض عينيه فشرد بذهنه أو نام فإن الجسم لا يكون في حالة نوم حقيقي، لأن جميع أجهزته وعملياته الحيوية تكون في نشاطها الذي كانت عليه حال اليقظة، فلا يحدث لها الخمود والتباطؤ الذي يحدث أثناء النوم عندما يكون الجسد في أتم الصحة والعافية. وهو ما يُثبت أن السهر ليس بسبب الألم كما قد يظنه العوام، ولكنه عملية مستقلة ومهمة ولا بد منها لمواجهة المرض، وهو محصلة التنبيهات المتبادلة في الجهاز العصبي بين المراكز المختلفة، وللسهر مركز مستقل يشرف عليه ويضمن استمراره. تعوّدَ أنْ يُغبَّرَ في السرايا ويدخلَ منْ قتامٍ في ِقتامِ فأُمسِكَ لا يَطَالُ لهُ فيرعى ولا هو في العليقِ ولا اللِجامِ والتداعي في اللغة العربية هو النداء والاستغاثة، وهو التجمع، وهو الاستعداد وكلها تدل على ما يحدث في الجسم فالتداعي بمعنى التهدم والانهيار يصف ما يحدث في سائر أجهزة الجسم، فهي تقوم بهدم بروتيناتها ومخزونها من المواد الدهنية والنشوية - بل وحتى بنيتها الأساسية - لكي تمنح العضو المصاب ما يحتاجه من الطاقة لمواجهة المرض العارض، وعلمياً ثبت تناقص وزن المريض وهزاله على الرغم من استمرار التئام العضو المصاب، وحتى يتم الشفاء، ثم يبدأ بناء ما تهدم من سائر أعضاء الجسد فيما يعرف بطور إعادة البناء، فسبحان من ألهم النبي الأمي عليه الصلاة والسلام. فإنْ أمرضْ فما مَرِضُ اصْطِبَارِي وإنْ أُحْمَمْ فما حُمَّ اعْتِزامِي وإنْ أسْلمْ فما أبْقَى ولَكِنْ سَلِمْتُ منَ الحِمامِ إلى الحِمامِ ولعلكم ستتعجبون حين تعلمون أن علماء الغرب استخدموا اسماً للجهاز العصبي الذي يتفاعل في حال تعرض الجسم للخطر والمرض بلغتهم وصفوا به حقيقة ما يفعله هذا النظام والجهاز، وهو (sympathetic) وترجمته الحرفية: المتواد، المتعاطف، المتراحم، وهو عين ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الشريف: "توادهم، تعاطفهم، تراحمهم"، فهل نحن كالجسد فعلا؟؟! ولعل ما يُبهر فعلاً أن أعضاء الجسد وبحركة لا إرادية لا تتوجه بالشكوى إلا إلى الجهة التي تمتلك القدرة الفعلية على إغاثتها وإعانتها، فلا تتحدث لمجرد الحديث، ولا تهدر طاقتها فيما لا ينفعها، بل تتجه مباشرة إلى من بيده الحلَّ والعقد، فهل من معتبر؟! قبل الوداع: سألتني: متى تكبحين جماح سؤالٍ يدور في ذهنك؟ فقلت: عندما أعلم يقيناً بأن الإجابة ستؤلمني كثيراً، أُفضَّل الصمت رأفةً بمشاعري واحتراماً لقلبي. فَلَمّا صارَ وُدُّ الناسِ خِبًّا جَزَيتُ عَلى اِبتِسامٍ بِاِبتِسامِ