كانت في كامل زينتها وأناقتها، وهي تقضي مع زوجها الحفل الذي أعدته له بغرض توديعه. فبسبب ظروف عمله، سيغيب عنها هذه المرة فترة طويلة، قد تزيد عن العام. هي من داخلها حزينة ومكسورة جداً على ذهابه، وتود لو كان الأمر بيدها وتمنعه من الذهاب، حتى يبقى بجوارها. لكنها كانت تتعالى على كل ذلك، حتى لا يظهر منها، ما يفت في عزيمته، أو يتسبب في حزنه قبل ذهابه، فقد كانت في غاية الحرص على أن يذهب ومعنوياته في أحسن أحوالها. كانت طول تلك الليلة تملأ عينيها منه، وهو يأكل، وهو يضحك، وهو يلاعب أطفاله. وكأن صوره التى تملأ جهاز جوالها لن تكفيها. وجاءت اللحظة الأخيرة، فوقفت معه طويلاً عند باب البيت، وعانقته طويلاً، ودعاؤها له بالتوفيق يحيط به من كل جانب. وما إن خرج وأغلقت الباب خلفه، حتى سمحت لما بداخلها أن يخرج أيضاً، فأحاطت أطفالها بذراعيها وراحت تبكي. ذهب مخلفاً لها بعض المال تدبر به شؤونها، وثلاثة من الأطفال، ورابعاً تركه لها في أحشائها. تعالت على حزنها، واستقبلت مسؤولياتها، بكل قوة وعزم. فهي تنهض قبل الفجر، فتتقوى ببعض ركعات بين يدي ربها، على آلام الحياة وقسوتها، ودعواتٍ ترفعها له، أن يأخذ بيدها ويعينها. توقظ الأطفال للمدرسة، وتبدأ بوفاء قبل خالد، فالاهتمام بمظهر الفتاة يتطلب وقتاً. ثم تجهز لهم الإفطار، وترقبهم بعينيها وهم يأكلون، وربما تولت إطعامهم بيديها. ترافقهم إلى باب البيت، ثم تعود مسرعة إلى النافذة، حتى تطمئن أن كلا منهم قد استقل حافلته الخاصة به. تشرع بعد ذلك، في انهماك شديد، بالقيام على أمر البيت وتنظيفه، ما بين غسيل للأواني والملابس، وجليٍ للبلاط، ونفضٍ وطرد للغبار، ومسح للزجاج والطاولات، كل ذلك وجنينها الذي في أحشائها لا يكف عن الركل، وعقلها هو الآخر لا يكف عن التفكير في وفاء وأبي وفاء وخالد، لها جسدٌ منهوكٌ هنا، وقلبٌ مفطورٌ هناك. في تمام الساعة العاشرة، تجهز إفطار أحمد، ابنها الذي لم يلتحق بالمدرسة بعد، ثم بعد ذلك توقظه. ثم تتم ما بقي لها من أعمالٍ بدأتها؛ لتفرغ لتجهيز الغداء للجميع. يعود خالد ووفاء، فتستقبلهم بالحبور، وتسألهم عن أحوالهم وما جرى لهم خلال يومهم، وتتأكد أنهم لم يتعرضوا لأي أذى. تفرغ بعد أن ترفع مائدة الغداء، وتنظيف كامل المطبخ من آثار تجهيزه وأكله؛ لتدريس الأولاد. ودائماً ما يستغرق هذا وقت طويلاً، فهي تريد لهم أن يكونوا متفوقين. حتى وقت راحتها، الذي تلوذ به لتفرغ لقراءة أو مشاهدة، لا يسمح لها الأطفال، أن يجعلوه خالصاً لها. فعليها أن تجيب عن أسئلتهم المتكررة، وطلباتهم التي لا تتوقف: ماما أنا جائع، ماما متى يأتي بابا، ماما أريد أن ألعب في الخارج قليلاً! ذات مساء وقد أحاط بها مجموعة من صديقاتها، يباركن لها مولدها الجديد، الذي عانت جداً من ولادته، حتى ظنت أن روحها ستخرج. سألنها: يا أم وفاء، لماذا لا تعملين؟ خاصة وأنك تحملين شهادة جامعية! فقالت: أبو وفاء وبيتي وأولادي أحب إلي مما تدعونني إليه! في صبيحة يومٍ من أيام الإجازة الصيفية، قامت بنشاط معهود، وفرحٍ غير معهود تزين البيت والأولاد، فلا غرو فإنه يوم مجيء أبي وفاء، السعادة تملأ جوانحها، والشوق يوشك أن يغادر صدرها بدخول أبي وفاء. ودخل أبو وفاء، وهي والبيت والأولاد في كامل الزينة والأناقة. وقفت وفاء وخالد كل منهما يحمل في يديه زهوراً وفي الأخرى شهادة تفوقه، وهي تحمل في يديها صغيرها الذي لم يره. خلا بها بعد مراسم الاستقبال، وسألها : هل بحثتِ عن وظيفة كما طلبت منك أن تفعلي، فقالت : آثرتك على كل شيء. فقام غاضباً وهو يقول: أنتِ هكذا تصرين على الكسل والجلوس في البيت، ولا ترغبين أن تشاركيني متاعب الحياة، أنتِ لا فائدة منك! نظرت إليه وإلى يديه الفارغة حتى من هدية، وإلى فمه الذي خلا من الشكر لينطق بهذه الكلمات! فنكست رأسها بحزن مضاعف، وهي تتمتم: قليلٌ من الوفاء يا أبا وفاء! أبو وفاء هذا الذي استثار حفيظتكم، هو كل رجل يردد أن نصف المجتمع معطل! وهو كل امرأة تعتقد أنها لا بد أن تعمل خارج بيتها محتاجة كانت أو غير محتاجة! نعم هن لا يخرجن ولا يراهن المجتمع، لكن هن له كالعروق للشجرة لا تُرى ولكن منها يستمد حياته ونشاطه، من أراد أن يستل هذه العروق من مكانها، هو لن يقضي عليها فقط، بل سيقضي على المجتمع برمته! ونحن هنا بدورنا نتمتم للمجتمع ونقول: قليلا من العقل والوفاء!.