في خضم الحياة تعترض المرء المواقف، وتمر به الشخصيات، فأحيانا قد لا يأبه بصغارها أثناء التعامل معهم، مع أنها تبني نفوسهم، وترسم في أعماقها لوحات الحياة من حيث يشعر المرء أو لا يشعر. الناس من حول المرء يريدون الاهتمام والتفاعل، والذي يبدأ من النظرة والكلمة والإقبال، وذلك يتم عبر مجموعة من الأخلاق الكريمة ولنضرب على ذلك أمثلة تبين المقال وتقرب الصورة.. عبدالله بن أم مكتوم-رضي الله عنه- صحابي جليل كان مقبلاً على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحادثه ويجالسه وألح في مساءلته لكن رسول الله حينها كان مشغولاً بكبار قريش رغبة في دعوتهم، فبماذا ربى الله تعالى نبيه؟! نزل الوحي مباشرة بسورة تتلى إلى يوم القيامة: "عبس"، ليلفت نظر النبي بأن اهتمامك بذلك الأعمى الفقير لا يقل أهمية عن أولئك الملأ الذين تطمع في إسلامهم، ونبهت السورة بأن المقام الأهم ليست بالأشكال، وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى! لم يذكر القرآن اسم الأعمى لأن الذوات ليست بأهمية الحدث! يُقبل الأعمى فتنشغل بدعوى الملأ المعرضين؟ إنها رسالة ربانية.. من أقبل فليمنح بعض مشاعر القبول والتفاعل، ويستمر ذلك المنهج النبوي في مدارج الكمال ليبين بعد ذلك أن كل مسلم له حقه من التقدير والاهتمام، فالإنسان مجموعة معارف ومشاعر، فإن أُهملت المعارف ضل، وإن أُهملت المشاعر ذبل وابتئس! ذلكم يشاهد حينما توفيت التي كانت تقم المسجد وتنظفه فصلوا عليها ولم يخبروا النبي- صلى الله عليه وسلم- فماذا كان رد فعله؟! في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: أن امرأة سوداءَ كانت تقم المسجد (أي تنظف المسجد) فماتت، ففقدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها بعد أيام، فقيل له إنها ماتت، فقال- عليه الصلاة والسلام-: فهلا آذنتموني! فأتى قبرها فصلَّى عليها. هذا الموقف يظهر بجلاء اهتمام النبي بمن حوله رجالا ونساء، ومن قام بعمل كبير أو صغير، إنه -صلى الله عليه وسلم- يعمِّق مفهوم أنْ لا صغير بين القوم بالأعمار أو الأجناس أو غيرهما، وإنما كل من شارك كبيرٌ لأنه قدم استطاعته وتفاعل إيجابيا، هذا الاهتمام نال من تقم المسجد فكيف بالمعلم والمعلمة والأم المربية والأب المربي، وكيف بالعاملين في جميع مجالات الحياة؟ّ! إنّ كل من معنا وحولنا ويشارك في حياتنا لهم حق الاهتمام والتقدير أحياء أو ميتين، إنّ رفع مستوى الاهتمام بمن تحت يدك وحولك والشعور بحضورهم وحين فقدهم يبني شخصياتهم وينشئها سوية قوية، ويشيد سياج الأسرة والمجموعة والمجتمع.. فالمشاعر ومراعاتها وتقديرها يعتبر سياجا حاميا للنفوس وبانيا لها في الحياة، ليقارن العاقل ذلك مع بعض المواقف والشخصيات التي تهمل ذلك بل تطمسه وتلغيه.. فلا اهتمام ولا إحساس؛ تمر الأتراح والأفراح.. ولا صوت أو حضور أو رسالة! مثل هذا هل يقارن بمثل انشغال النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الأعمى بدعوة الناس؟! إنني أؤمن بأنّ بناء الأوطان يسبقه بناء الإنسان.. وبناء الإنسان يقوم شطر منه على الجانب المشاعري، ولذلك سُطِّرت له سورة من القرآن، نقلها لنا أمانةً الأمينُ محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى لقاء قادم.