أليس عجيبا أن يبحث المرء عن نافذة يتسلل منها الضوء، ويخشى، في الوقت نفسه، أن تصبح تلك النافذة جدارا أو كهفا؟ وأن يصبح الضوء استبدادا جديدا، أو عتمة أخرى؟ ذلك ما حاول الشاعر اليوناني قسطنطين كفافي أن يعبر عنه في قصيدة له بعنوان (النوافذ). فهل لذلك القلق من مبرر أو معنى؟. قد يقول قائل: لو سادت مثل هذه الروح لما تقدم العالم خطوة واحدة. وهي ملاحظة تستحق أن تناقش في مقال آخر. لكن كثيرا من التجارب التي مرت بها البشرية تؤكد أن لذلك القلق ما يبرره. ويمكن- للمعني بالإجابة عن ذلك السؤال- اللجوء إلى ذاكرة الإبداع الأدبي والفني، فهي- وبخلاف ذاكرة المؤرخين- تهتم بالهامش، وتعنى بالتفاصيل الصغيرة، وقد تسقط من حساباتها ما يراه المؤرخ متنا. في رواية جورج أرول (مزرعة الحيوان) وهي من أشهر الأعمال الأدبية الرمزية، ما يذكرنا بقول الشاعر: "دعوتُ على عَمْرو فمات فسرني/ وجرَّبتُ أقواما فنحتُ على عمرو" وفي رواية أخرى "ولما أتى زيدٌ بكيت على عمرو". يصور أرول في رائعته تلك كيف غمرت الحيوانات موجة من البهجة بعد أن قررت التمرد على مالك المزرعة (مستر جونز)، وأشاعت كلمات النشيد الجديد الذي يشبه البيان الأول في انقلابات العسكر، جوا من التفاؤل. فقد وعدتهم كلماته بمستقبل ذهبي خالٍ من السوط والسرج واللجام والمهماز واستغلال الإنسان للحيوان المغلوب على أمره. وبشرتهم بمستقبل يتوفر فيه قمح وشعير وشوفان وتبن وبرسيم. كان نشيدا يمني الجميع بمستقبل مضيء. حتى الحمار الذي يتهمه جورج أرول ببطء الفهم وفقدان حس الدعابة، استطاع بعد تكرار المحاولة أن يحفظ كلمات النشيد، وأن يعبر عن ابتهاجه بنهيقٍ صاخب متواصل. كان نشيد المزرعة يبشر بفتح نوافذ جديدة يتسلل منها الضوء والهواء. وهو إغراء يستدرج أولئك الذين لا يرون إلا ظاهر الأشياء. إذ نادرا ما يسأل الشخص البسيط المندفع وراء بريق اللافتات: لماذا وكيف؟ وعلى النقيض من ذلك، فقد تأسره الوعود أسرا كليا، وتستلبه وتقوده إلى حالة من التبعية العمياء. وهذا هو الاستلاب الذي غالبا ما يكلف الجموع ثمنا باهظا. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن نافذة "الخريف العربي" التي فُتِحتْ فتسللت معها العتمة والفوضى وثقافة الكراهية والإرهاب. يقول الشاعر كفافي في قصيدته التي أشرت إليها في البداية: "سيكون مريحا جدا إذا فتحت نافذة.. لكن ليس لهذه الغرفة من نوافذ.. أو أنني لم أستطع أن أجدها.. ربما كان من الأفضل أن لا أجدها.. قد يكون الضوء استبدادا آخر.. من يدري!" وهذا هو بالفعل ما حدث في مزرعة السيد جونز. فالوصايا الذهبية التي بشر بها نشيد المزرعة، وجاءت على شاكلة: "الحيوان لا ينام على سرير"، و"الحيوان لا يرتدي الثياب أبدا"، و.. "كل الحيوانات متساوية"، تمت خيانتها، الواحدة تلو الأخرى. ويشاطر إميل سيوران الآخرين هذا القلق فيرى "أنه ما من حركة تجديد إلا وتنزلق في لحظة اقترابها من الهدف نحو المؤسسات القديمة لتسترجع التقاليد". لا بأس، إذن، أن نفتح نافذة ما ليتسلل منها الضوء والهواء شريطة أن نعي متى، ولماذا، وكيف. فوراء النوافذ ما وراءها!.