يبدو وبكل وضوح وألم أن كثيراً من الزعماء الذين يتصدرون المشهد ويمسكون بتلابيب التاريخ ويطرحون أنفسهم أحكم الحكماء وأذكى الناس، تنتهي بهم الأقدار إلى كشف سوءاتهم على الهواء وبعروض هزلية لا تتوافق مع هيبة الزعامة وعقل الحكمة وذكاء المحترفين. كثير من الزعماء العرب، يزعمون أنهم مثقفون ومطلعون، يقرأون التاريخ ويدققون في أفراحه وأتراحه، وبلا أدنى شك، قرأوا الهزائم التي مني بها آلاف الحكام السابقين بسبب سوء التدبير وضيق الأفق والانغماس في الغرور الشخصي حد العمى. ولكنهم لا للأسف، يقرأون ولا يتدبرون ويعميهم الغرور عن التفكير بأن الدوائر تدور حولهم وأحياناً قريباً من أعناقهم. والغريب أن الزعماء العرب المنظرين مثل القذافي وعلي عبدالله صالح وبشار الأسد وصدام حسين وزين العابدين بن علي، قد أثبتوا أنهم أكثر عمى وجهلاً وحتى غباء، لأنهم تحولوا من زعماء إلى ريشة ضعيفة وهزيلة طارت مع الرياح. لو أن نوري المالكي لم يصب بالعمى ذاته، ولو أنه أخذ العبرة من الحكام الذين أطاح بهم عمى البصيرة، لما تحول إلى شخص كريه وضعيف مكابر وزعيم ينفض سماره جماعات وعلى عجل. حسناً.. المالكي ليس القذافي ولا صداماً ولا بشاراً، لأنه يدعي أنه «دستوري» مع أنه حول الدستور إلى غطاء للميلشيات وقدمه هدية، لا ترد ولا تباع، لميلشيات قاسم سليماني وجعل القضاء حامياً لكل الموبقات، بما فيها شن حملة طائفية جند لها كثيرا من شذاذ الأرض متعددي الجنسيات. وفي عهده جعل المالكي الدم والفساد «إلى الركب» وعادى كل العراقيين بما فيهم شيعة مخلصون لمذهبهم. لهذا هو الآن يبكي وحيداً، إلا من بعض المنعمين من الفساد في عهده. إذا كان المالكي يتحدث عن الدستور والانتخابات والشرعية الديمقراطية، ليأخذ العبرة من لوران غباغبو رئيس ساحل العاج الذي كان مثل المالكي فاسداً سفاحاً وموالياً للقوى الأجنبية. ومثل المالكي عاند وادعى أنه فاز بالأغلبية وجمع ميليشياته الخاصة وأتباعه الذين جندهم وأغدق عليهم الأموال، مثل المالكي، لموالاته شخصياً وليصفي حسابات السياسية والحزبية مع الكل. ولكن انتهى المطاف بغباغبو، عام 2011، معتقلاً في كوخ وهو لا يرتدي إلا ملابسه الداخلية، ثم سلم إلى محكمة الجنايات الدولية لاتهامه بارتكاب جرائم حرب. وكان على المالكي، لو يملك ذرة من ذكاء، أن يعرف أنه قد انتهج سلوكاً متهوراً لإرضاء طهرانوواشنطن وذلك بالضبط ما جعله «غبيا مخلصا» ومجرد ورقة لُعب بها، مرحلياً، إيران والولايات المتحدةالأمريكية. وبعد أن تلوثت الورقة، واتسخت جداً، قررا التخلص منها في سلة مهملات التاريخ كي لا تلوث خططهما واستراتيجياتهما المشتركة أو المنفردة. بل حتى طهران سحبت ملف العراق السياسي (ربما بمشورة واشنطن) من قاسم سليماني وسلمته لعلى شامخاني أمين مجلس الأمن القومي وممثل الخامنئي في المجلس، وهذا يعني أن سليماني والمالكي قد تماديا في توسيع الشقوق في العراق إلى درجة خطيرة ومكلفة أدت، في 10 يونيو الماضي، إلى كارثة تمثلت باحتلال ثوار العشائر وحركة «داعش» نصف العراق تقريباً وهزيمة ساحقة ماحقة ومهينة لسليماني والمالكي ولطهرانولواشنطن وللسلاح الأمريكي الذي استولت عليه «داعش». وتر المساء ملبد بأنين الفواجع.. العراقيون يقايضون شدو الأفراح بمواويل وداع أحبة اختطفهم وحش الموت الآثم.. وإذ الفرات، زنبقة التاريخ البهية، يدفق ماءه الحزين.. ودموع ماجدات تحفر نهرها في الخدود الوضيئة، ونخيل وخصل صبايا تحترق.. وخطى المطاردين.. وآلام منافي قصية.. وبابل الوهنى تختنق.. (والرافدان وشمس الله والقمر)..