في الحديث المرفوع عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «سيأتي على الناس سنواتٌ خدّاعاتٌ يُصدّق فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّنُ فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة». قيل: يا رسول الله وما الرويبضة قال: «الرجل التافه ينطق في أمر العامة». هذا الحديث العظيم من مشكاة النبوة شاهد على صدق نبوة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ودليل من دلائل إعجاز الكلم النبوي وبلاغته، وفيه إخبار عن اختلال معايير الناس زمن ضعف الديانة، وقلة العلم، وبزوغ رايات الانحراف عن هديه -صلى الله عليه وسلم-. يخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق أنه يأتي على الناس سنوات يفشو فيها الكذب والخداع، وتختل فيها المعايير، ويتصدر من لا خلاق له؛ ويترك في ذلكم الوقت كلام الصادق ليرفع حديث الكاذب، وترتهن الأمانة عند الخؤون وتكون له الحظوة والمكانة، فيقدم في كل شأن يحتاج رأي ومشورة العالم العاقل الحاذق الأمين، وينزل الأمين منازل الخونة فلا يؤبه له في شأن من الشؤون التي تؤهله أمانته لأجل أن يكون عليها من القائمين. ثم يختم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحديث بقوله: «وينطق فيها الرويبضة». والرويبضة تصغير لمفردة رابضة، وهو تصغير يفيد التحقير في هذه الحالة لبيان حجم التفاهة لمثل هذه الشخصية التي يصل سوء الحال بأهل زمانها أن تكون هي المتحدثة والناطقة المسموعة في أمر العامة وقضايا الأمة الكبرى. ولقد وقع من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث مظاهر لا تخطيها عين الفاحص الدقيق، ولا عقل المتأمل اللبيب فرمى أهل الكذب الصادقين بالكذب بل بأقذع الأوصاف وأبشعها، واتهم أرباب الغدر والخيانة أهل الحرص والأمانة بما هم منه أبرياء، وتحدث في مسائل كبرى وعظام أمشاج من متعالمة الزمان وحمقاهم بما يندى له جبين العلم والخشية والمروءة، ورأينا من ينصب مفكرا وهو عبارة عن كيس كبير احتمل جهلا وسفسطة احتاج معها إلى درة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زجرا وتأديبا. لقد أصبحت الفتوى حمى مستباحا من جهول لم يقض للعلم بعض حقه فلا يعرف الفرق بين العام والخاص، والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ؛ ولا يملك من آلة اللغة ما يستقيم به لسانه على معنى تفقهه العقول الراجحة وتتقبله القلوب السليمة ؛ فضلا عن نضوب حاد في الحكمة والرأي والعقل. واقتحم على العلماء الكبار أغرار من مستصحفة هذا العصر ودعاة العقلانية فيه بمؤهلات لا تزيد عند بعضهم عن زاوية في صحيفة وتلميع في قناة فضائية، وتفرد بغرائب مضحكة، وشهادة لا تتجاوز الثانوية العامة؛ ثم هو في زاويته ومن صحيفته يجرح في علماء وكبار شابت لحاهم بين أودية العلم ينقبون فيها ليلا ونهاراً حتى رقت عظامهم وتوسط الشيب مركزا مرموقاً من أجسادم فيا لله العجب!!. إنه زمن تروج فيه بضاعة تخوين الأمناء، وتكذيب الصادقين وتلوين الحقائق بلون الخيانة وطعم الكذب، ورداء التفاهة، في صناعة استرزاقية تنسل من دار الشبهات إلى بيت الشهوات على نهر من دماء الكرامة والمروءات، حتى يصبح الصادق الأمين غريبا خائفاً يترقب مقصلة تأتي على ما بقي من بنيانه المحاصر بأشرس جنود التحريش، وأسلحة القتل المعنوي والتصفية الحسية. رأينا وسمعنا وقرأنا لمن يلوك بلسانه في قضايا كبرى لو جمع لها أهل بدر لتدافعوها الواحد بعد الآخر؛ وقرأنا وسمعنا ورأينا من يخرج الحق في لبوس الباطل، والباطل في لبوس الحق، ويسخر من السنة، ويحتفي بالبدعة، ويقذف بالشبه من طرف خفي تشكيكا للخلق في دينهم، وتزهيدا لهم فيما بين يديهم من الهدى والنور. يجمع ذلك كله في لمع من أضواء برق خلب يسحر أعين أهل الزمان ويسترهبها عما بين يديهم من علوم كتاب ربهم وسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. تشفير إذا النائبات بلغن المدى وكادت تذوبُ لهن المُهجْ وحلّ البلاءُ وبان العزاءُ فعند التناهي يكون الفرج