كعادتها في هذه الفترة كانت عائدة من دوامها اليومي، وخلال ذلك رأت عاملة منزلية بيدها كيس ملابس تهرول بالطريق، فقالت لزوجها: اقترب منها. وتحدثت معها: من أنت؟ وماذا بك؟ فردت العاملة: ماما خلاص أنا أهرب من بيت أنا. وفي لحظة فتحت باب السيارة لهذه العاملة وأركبتها وقالت لزوجها: قُد للمنزل. الكل منا سيفكر أو سيذهب بفكره إلى أن هذه المرأة ستأخذ العاملة للجهات المسؤولة لإبلاغ الكفيل والذي في هذه اللحظة سيكون في حسرة وقلق وتعب نفسي، ولكن بدل ذلك كل الذي فعلته هو أنها آوتها وأقنعت زوجها بأن الله أرسلها لهم وبدون تعب، فوافقها للأسف. وعادت المرأة للعاملة المنزلية قائلة لها: ابق لدي، أنا افضل وليس لدي أطفال، وكان الاتفاق وانتهى الأمر. ذكرت هذه الحادثة قريبة لي تعرف هذه المرأة، وحاولت قريبتي اثناءها عن هذه الفعلة ذاكرة لها كل ما يمكن أن يكون من الأحاديث التي تثبت أن هذا تعد على الجار وحقه وإيذاء مسلم قد يكون محتاجا لها وقد يكون قد دفع من المال الشيء الكثير لاستقدامها، ولكنها لم تستطع اثناءها عن تلك الفعلة . ذكرت هذه القصة لصاحبة لي فضحكت وقالت: هذا هو الحال. فسائقنا الذي تعلم وتدرب على ايدي إخوتي سنة كاملة حتى أتقن القيادة فجأة أصر على السفر، وبالفعل أكرمناه ونفذنا له طلبه لأنه أضرب تقريباً عن العمل، وبعد فترة رآه اخوتي يصلي جنباً إلى جنب معهم في المسجد وقد أتى إلى جارنا القريب منا براتب أجزل وأعلى مما قررته الدولة. وأخرى تحكي: عاملتي كانت رائعة في التعامل معي، وتكررت زيارة جارتي لي كعادتها، وكنت أمدحها كثيراً، ولثقتي كنت أدعها تذهب لتساعدها حين حاجتها لها، وكنت أضع نصب عيني أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الجار وما يتعلق به وحقوقه وكل أمره، وفجأة تمردت عاملتي علي وأصبحت لا تعمل جيداً وتطيل الصوت فاضطررت لتسفيرها، ما هي إلا أشهر بسيطة حتى رأيتها في بيت جارتي تعمل لديها، لم أقل شيئاً، ولكني قاطعت جارتي، وأقسمت ألا أثق بأحد أبداً، ولا أتعامل مع الجيران. هذه الروايات استوقفتني كثيراً وحار فكري فيها، هل وصل بنا الحال لإيذاء الجار بهذه الطريقة؟ هل وصل بنا الحال بأن نضع خلفنا حديث محمد -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه، ونمضي في حياتنا غير عابئين بما سيؤول إليه حال هذا الجار بعد أن دفع المال وأفنى الوقت بالتدريب والتعليم، وأنا من خلفه أحيك المؤامرات وأدبر وأعد بالراتب الأجزل والحياة الهادئة حتى يتم لي ما أريد وأغض النظر عن هذا الإيذاء. هذه شريحة انتشرت وللأسف بيننا، فئة لا تخاف من الله ولا من أنظمة الدولة بإيواء الهاربين والتستر عليهم، فئة لا تعيش إلا لنفسها فقط ولأجل راحتها حتى وإن كان الجار رجلاً كبيرا طاعناً في السن أو محتاجاً. فئة ظنت أن هذا التصرف من حقها فماذا حصدت.. بغض الجار وعدم ثقته فيه وبغيره من الجيران فآذت مجتمعا كاملا، بل وزعزعت إيمانه بعظم حق الجار والذي أصبح الآن الجار المؤذي والجار الغادر، وغيرها من الالقاب والتي أصبحت على ألسن الجميع. ولكن،.هل اقف هنا وأدع القلم يتحدث فقط عن الجار الغادر.. والجار المغدور؟ لماذا لا يكون له ردة فعل بسيطة جداً وهي سؤال الجار نفسه: لماذا يا جاري فعلت هذا وقد أكرمتك، ووثقت بك، وأدخلتك بيتي، وطبقت شريعتي، وأعظمت حقك ؟ ويسمع الجواب الذي قد يشفي صدره أو يحرج جاره بهذا التصرف البغيض؟ أما في حالة معرفتي بأن جارتي تؤوي خادمة هاربة أو سائقا هاربا فلي كل الحق بالإبلاغ عن هذا الأمر، امتثالا لأوامر ولي الأمر والذي له الحق والطاعة فيما أمر به، وهذا هو التصرف الصحيح. اما بذهاب العمالة وعودتها مرة أخرى لهذا البلد في غضون أشهر لمجرد أن الجار سيدفع أكثر، هنا لابد من تدخل السلطات؛ لوضع الحد في هذه الأمور، وتحديد الرواتب وعدم الزيادة وسن القوانين على هذه العمالة التي تغادر قبل نهاية خدمتها بمنعها من الدخول حتى تستوفي وقتها المحدد الذي استقدمت من أجله. ومع هذا كله لا يجب علينا أبداً إبخاس حق الجار أو التعامل معه بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والذي قال (الجار ولو جار)، فالأمر يُعمل من أجله سبحانه ولنيل الأجر وليس للتقرب للجار أو نيل رضاه.