ترجع الزكاة في اللغة للفعل (زكى) الدال على معاني النماء والزيادة والطهر، ولكن تطورها الدلالي في الإسلام بلغ بها مبلغاً فريداً متميزاً، فبالإضافة لهذه الدلالات اللغوية الرائعة (النماء والزيادة والطهر) أصبحت من حقائقه الشرعية والركن الثاني من أركانه الخمسة. ولئن كان للزكاة في الإسلام فقهها الواسع الهادف؛ من حيث أحكامها ومشمولاتها ومن تجب عليه ومن تجب له ومقدارها، والأنواع التي تجري فيها إلاَّ أنَّ الحديث عنها في هذا المقال بمناسبة مشارفة شهر رمضان المبارك على الرحيل الذي تحل بنهايته زكاة الفطر حديث عن آثارها في تزكية الفرد وبناء المجتمع باعتبارها عبادة مالية اجتماعية ذات أبعاد تربوية ونفسية عظيمة، قرنها القرآن الكريم بالصلاة والإيمان والعمل الصالح في عشرات المواضع، (تارة بلفظ الزكاة، وطورًا بلفظ الصدقة، وأحيانًا بلفظ الإنفاق)، وبلغ أمر الاهتمام بشأنها أن قاتل أبو بكر الصديق، وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من منع أداءها، وقد أقرته الأُمَّة على ذلك، وحكمت على من لم يؤدها لبيت مال المسلمين بالردَّة عن الدين، وقد رُويَ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: «والله لأقاتلنّ من فرَّقَ بين الصلاة والزكاة». كما أنَّ الزكاة من العبادات المعروفة في الأديان السابقة للإسلام بيد أن الإسلام بلغ بها ذروة التمام والكمال شأنها في ذلك شأن سائر أركانه وشعائره وهديه. للزكاة في جميع أنواعها آثار حميدة تعود بالخير على الفرد والمجتمع، منها على سبيل الإيجاز الآتي: * تهذيب النفوس البشريَّة وتطهيرها من عوامل الأثرة والشح والبخل، وسيطرة المال بمختلف صوره على نفوس الأغنياء من جهة، وتطييب لنفوس الفقراء والمساكين والمستحقين للزكاة من الفئات الأخرى، والإسهام في إغنائهم ودفع غائلة الحاجة عنهم وما تسببه من مفاسد وانحرافات، قد تضر بسلامة المجتمع وأمنه، وتسبب الفوضى في المعتقدات والسلوك، وهذا واقع المجتمعات الأُخرى، أمَّا المجتمعات الإسلاميَّة فإنها وبقدر ما تلتزم بشرع الله، ومنه أداء الزكاة المفروضة، تسهم في قيام نظام اجتماعي متوازن يحقق التضامن والتكافل والتراحم والتعاطف والألفة والمحبَّة؛ إذ يعطي الغني فيه الفقير من ماله الذي هو في تصوره واعتقاده مال الله وهو مستخلف فيه مسؤول عنه، وأن عليه فيه حقوقًا متنوعة «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»، ابتغاء مرضاة الله والفوز بثوابه، فيخرجه أداءً للواجب وبراءة للذمَّة من غير استعلاء ولا منَّة، بل عبادةً لله وشكرًا واستشعارًا للبركة التي يرجو أن يطرحها الله في ماله، ويأخذه الفقير والمستحق بصفة مشروعة، والمنَّة في ذلك والشكر لله، مع الشعور بالأخوة الإسلاميَّة التي أوجبت له في مال أخيه ما يسهم في سد حاجته. يقول الماوردي عن الزكاة هي: (مواساة للفقراء، ومعونة لذوي الحاجات تكفهم عن البغضاء، وتمنعهم من التقاطع، وتبعثهم على التواصل) وفي هذا السياق فإنَّ الإسلام تفرد في نظام الزكاة ونحوها من النفقة والصدقة والكرم والإيثار بآداب سامية، حيث نهى الباذل أن يلحق ما بذله بشيء من الأذى والمنَّة ونحوهما، وذهب بعض العلماء إلى أن المنّ من كبائر الذنوب. ومن الآداب التي أرشد الإسلام الفقير إليها أن يشكر الله أولاً ثُمَّ يشكر من أعطاه ويدعو له ويثني عليه ولا يستصغر المبذول له أو يذمه، كما أنَّ عليه ألا يأخذ إلاَّ بقدر حاجته ولا يستكثر بما يعطى، وأن يعتمد على الله ثُمَّ على نفسه فيجد ويجتهد للكسب من عمله، وهذا ما حثَّ عليه الإسلام، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأنْ يأخذ أحدكم حبله ثُمَّ يغدو -أحسبه قال- إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس». * الزيادة والنماء في المال المزكى، وإن كانت الزكاة في ظاهرها، تنقص المال باعتبارها أخذت بعضه، إلاَّ أن الزكاة -بموعود الله- سببٌ لزيادة المال ونموه ومضاعفته، قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث أقسم عليهن.. ما نقص مالَ عبدٍ صدقة، ولا ظلم عبد بمظلمة فيصبر إلاَّ زاده الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا يفتح عبدٌ بابَ مسألة إلاَّ فتح الله له باب فقر». * ومن آثار الزكاة أنها تعمل على كسر حدَّة الفوارق بين فئات المجتمع المسلم، صحيح أنَّ الإسلام لا يلغي الفوارق بين الناس في الاكتساب بل يعترف بها وأنها بسبب قدراتهم ومجهوداتهم ويقر بأن ذلك من مقتضيات طبيعة الناس والحياة وحظوظهم المقدرة لحكمة يعلمها الله عز وجل (لكن هذا التفاوت الفطري في الرزق ليس معناه أن يدع الغني يزداد غنىً، والفقير يزداد فقرًا، فتتسع الشقة بين الفريقين ويصبح الأغنياء طبقة.. تعيش في أبراج من العاج، ويصبح الفقراء طبقة.. تموت في أكواخ من البؤس والحرمان، بل تدخل الإسلام بتشريعاته القانونية، ووصاياه الروحيَّة والخلقيَّة لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء). وتأتي الزكاة في مقدمة ما شرعه الإسلام لتحقيق هذا الهدف النبيل، أحاطها بالترغيب والترهيب، وقرنها بالصلاة والإيمان والطهر والتزكية والفضل والنماء، وغير ذلك من المبادئ والقيم والفضائل لتؤدي وظيفتها على أكمل وجه. إن عناية الإسلام بالزكاة على هذا النحو بأن جعلها ركناً ركيناً لدينه القويم وأساساً متيناً لنظامه الخلاق يعني ذلك توسيع نطاق المسؤولية الاجتماعية وترسيخها بزخم إنساني والتزام ديني له ألقه المتوهج وأسلوبه الحضاري الرائد الكفيل بمعالجة العوز وسد الحاجة وستر الحال للشرائح المستهدفة والفئات ذات الظروف الخاصة في المجتمعات الإنسانية قاطبة.