يتحول المجتمع إلى ظاهرة صوتية حين يعيش على اللغة وحدها. أي حين تمنحه اللغة، بزخارفها ومنمنماتها وبالوناتها البلاغية الملونة، ما لم يستطع تحقيقه عبر الممارسة الواقعية، حيث الأسماء لا تطابق المسميات، وحيث تسمع جعجعة ولا ترى طحنا. تستطيع جزر الواق واق، على سبيل المثال، أن تخترع لها اسما طويلا عريضا يضفي عليها أهمية لا وجود لها في الممارسة الحية، فتصبح (جمهوريات جزر واق الواق الاتحادية الشعبية الاشتراكية التعددية الديمقراطية العظمى) فلا ينازعها على استخدام اللغة منازع. ومن ذا الذي يجادل الآخرين في أسمائهم أو يعترض على أحلامهم! اسم طويل لا يضاهيه طولا وعرضا إلا كنية الشاعر العباسي أبي العبر. كانت كنيته أبا العباس فصيرها أبا العبر. ثم صار يضيف إلى كنيته كل سنة حرفا حتى مات وهي (أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك)! لكن أبا العبر كان هازلا، ولم يستعن باللغة ليضفي على نفسه أهمية زائفة كما يفعل غيره، وإنما كان يمارس شكلا من أشكال العبث. تستطيع بعض المجتمعات أن تحقق عظمتها أو رخاءها الوهمي اعتمادا على اللغة، لكن ذلك لا يعني شيئا على الإطلاق، فالحديث عن حقول الحنطة لا يوفر رغيفا أو يشبع جائعا. وهو ما يذكرنا بأحد قوانين إدوارد مورفي القائلة: «أي بلد تدخل الديمقراطية اسمه ليس ديمقراطيا». ويستطيع أي منا أن يتحقق من صحة هذا القانون باستعراض خريطة العالم الثالث، ليكتشف أن إدوارد مورفي كان محقا. يمكننا أن نسوق مثالا آخر على العيش تحت مظلة اللغة: ففي المجتمعات المتقدمة يرابط العلماء في مختبراتهم بحثا عن علاج لهذا المرض أو ذاك، أو لتطوير وسائل تقنية تخدم الإنسان وتجعل الحياة على هذا الكوكب سهلة ميسرة، وعندما يصل ذلك الاكتشاف أو الاختراع إلى المجتمعات المستهلكة تسهر نخبهم وتختصم حول التسمية المناسبة لذلك المخترع، وربما يتفقون في نهاية المطاف على مسمى مثير للضحك لا يجد من يستخدمه فيقبع في بطون المعاجم، فالمستهلك لا يهتم بالمسميات قدر اهتمامه بالمنتج. في فترة من الفترات الحافلة بالعنتريات والشعارات،لم يكن بالإمكان تسمية الأشياء بأسمائها. كان الناس يلجأون إلى تلك المظلة اللغوية للتعويض عن الهزيمة بسماع الأناشيد الحماسية التي تتغنى بالأمجاد والبطولات والانتصارات، وباللجوء إلى قواميس اللغة لاختيار مسميات تخفف من وقع الهزيمة الثقيل. كانت اللغة دائما ترياق مجتمعاتنا ومظلتها الوحيدة، فهي الأعظم قوة وحضورا على أرض الواقع من أي شيء آخر. غير أن المشكلة ليست في اللغة، بل في كيفية استخدام الناس لها، أي في طرق تفكيرهم. ويبدو أن الشاعر المنتسب إلى بكر بن وائل قد سبق الكتَّاب الذين تحدثوا عن «الظاهرة الصوتية» عندما هجا أبناءُ عمومته بالبيت الشهير القائل: «ألهى بني تغلبٍ عن كلّ مَكْرَمةٍ.. قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم». المعنى واحد، لكن التعبير عنه مختلف. وكان الشاعر أكثر إيجازا ممن جاءوا بعده، فاختصر في بيت شعر واحد حالة امتدَّتْ بعد ذلك قرونا طويلة. و.. «ما أرانا نقولُ إلا مُعارا»! كما يقول كعب بن زهير. [email protected]