بَدَت الفكرةُ الأوروبية، غداةَ ميلادها في سنوات الخمسينيات، وكأنها غنيمةُ حربٍ، هي الحرب الباردة بين العظميَيْن (الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتي)، ولكن لا بمعنى أن الأوروبيين اقتنصوا فرصة الحرب تلك؛ للظفر بكيانٍ إقليميٍّ كبيرٍ لهم في غفلةٍ من فريقيْن منغمسيْن في عراكٍ ايديولوجي واستراتيجي، وإنما بمعنى أن ذلك الصراع ألْقَى عليهم أسئلةً مصيرية، ووَضَعَ مستقبلهم أمام امتحانٍ تاريخي. كان على أوروبا، الخارجةِ من حربها الثانية مهزومةً ومدمَّرةً وجريحةَ الكرامة، والواقعةِ بين رحى التمدُّد والتهديد السوفييتيَّيْن ورحى الهيمنة الأمريكية على القرار السياسي والعسكري لدول غرب القارة، أن تختار بين المراوحة في وضعها المأزقي (بين التهديد الشيوعي السوفييتي والابتزاز السياسي الأمريكي)، أو بين إطلاق سيرورة توحيدية استقلالية تنتهي بها إلى القَيْمُومَةِ قوةً دولية ذاتَ اعتبار. وليس معنى ذلك أن دول أوروبا وجدت نفسها، في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، في حالِ غَنَاءٍ عن حليفها الأمريكي كي تَجْهَر برغبةٍ في الاستقلال عن المؤسسات الإقليمية والدولية التي أَوْجَدَهَا لتنظيم علاقته بها؛ فهي كانت -إلى ذلك الحين- في مسيس حاجةٍ إلى المظلة الأطلسية، مثلاً؛ لِتَقِيَها خطرًا عسكريًّا من الشرق لا تَقْوى على جَبْهِه؛ لكنها كانت تُدْرِك، على نحوٍ حادّ، أن الثمن المدفوع لقاء تلك الحماية باهظ جدًّا، على صعيد سيادتها واستقلال قرار دولها، ولا تَقِلّ كلفتُه عن الثمن الذي قد تدفَعُه إن تحركتْ دبابات ستالين أو خروتشوف نحو الغرب. كان الخوف من "الخطر الشيوعيّ" حقيقيًّا في غرب أوروبا، وما كانت حدَّتُهُ لِتَقِلَّ عن الخوف من خطر النازية، الذي ذاقت القارةُ مرارته طيلة النصف الأول من الأربعينيات؛ وكان السقوط السريع لبلدان شرق أوروبا في قبضة النفوذ السوفييتي والنخب الشيوعية المحلية طريًّا في الأذهان. ومع ذلك، لم تذهل دول أوروبا الغربية عن حقيقة الاستتباع السياسيّ الذي باتت عرضةً له منذ أن دخل النفوذ الأمريكي حَوْمَتَها الجيو-سياسية، وأقام له فيها قواعد عسكرية وأحلافًا (="حلف شمال الأطلسي"). وأكثر ما شَغَلَ الأوروبيين في تلك الأثناء، وفي عزّ أَخْذِهِم بالعقيدة الأمنية الأطلسية، أن قارَّتهم لن تكون، في المطاف الأخير، أكثر من ساحةٍ لحربٍ قد تقوم بين الدولتين الكبيرتيْن، وأن وجود عساكر الاتحاد السوفييتي وعساكر الولاياتالمتحدةالأمريكية في أراضي القارة، المنقسمة على نفسها إلى شرقٍ وغرب، يبرّر لكلِّ واحدةٍ من الدولتين مواجهة الأخرى في الفِنَاء الأوروبي بدعوى حماية معسكرها من تهديد، أو من خطر، المعسكر المقابل. لم تكن دول أوروبا الغربية موحَّدةَ الموقفِ والتقدير في النظر إلى هذه الأخطار؛ ظلت بريطانيا -على عادتها- تسبح في الفلك الأمريكي من دون تَحَفُّظ. وكان في وسع الجمهورية الخامسة الفرنسية، في عهدها الديغولي، أن تقيم مسافتها الاستقلالية الضرورية مع البرنامج العسكري في "حلف شمال الأطلسي" للنَّأْي بنفسها عن صراعٍ قادم. أما ألمانيا فوقفت بين بين: بين التمسُّك بالعلاقة الأطلسية (الأمريكية) التي تحميها من الخطر الشيوعي، وخاصة بعد أن فُرِض عليها عدم التسلُّح بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبين التمسك بسياسة عدم التصعيد مع السوفييت، لأنها أول من سيدفع الثمن في حال المواجهة بين الدولتين الكبيرتين على المسرح الأوروبي. غير أن التباين بينها في الموقف وفي الحسابات، ما مَنَعَهَا -وخاصة فرنساوألمانيا- من التفكير في فتح أفقٍ أوروبي مشترك للخروج من نفق علاقتيْن تقترحان عليها إمّا المواجهة، وإما فقدان القرار. أتَتِ الفكرةُ الأوروبية، قبل ما يزيد عن نصف قرنٍ، إذن، تُفْصح عن حاجةٍ حيوية واستراتيجية هي امتصاص الآثار التي نَجَمَتْ من فقدان أوروبا لزمام مصيرها بعد أيلولتها إلى ساحةِ مواجهةٍ دولية في أعقاب الحرب. ثمة قراءةٌ تقليدية للموقف تمتهن التبسيط والاستسهال فتذهب إلى القول إن أوروبا استَلْحَقَتْ نفْسَها -أو اسْتُلْحِقَت-؛ لتكون جزءًا من الاستقطاب الدوليّ بين العُظْميَيْن. تَطْمَئِنُّ هذه القراءة إلى أحكامٍ قَطْعيَّة ونهائية عن قسمةِ أوروبا إلى شرقٍ مُسَفْيَت وإلى غربٍ مُؤَمْرَك. لا تَلْحَظُ هذه القراءة الاضطرارَ في الصورة، فتُحَوّلُ تقرير الأمر الواقع إلى استنتاج! لم يكن هذا حال أوروبا. كانت تعيش قلقًا مصيريًّا وهي موزَّعة بين خوفٍ مزمن من الجيش الأحمر وبين عدمِ رضا عن مصادرةِ إرادتها ممَّن يَعْرِضُ عليها الحماية. ربما كانت درجةُ القلق أعلى في أوروبا الغربية. ولكن، من قال إن مجتمعات أوروبا الشرقية لم تكن -هي الأخرى- خائفة على نفسها من الخطر النوويّ الأمريكي الذي يتهدّدها؛ أو لم يَكن يَتَولاَّها -هي نفسُها- بُرْمٌ بالهيمنة السوفييتية على قرارها ومصيرها؟! ألم تُسَارع، بعد الانسحاب السوفييتي من أراضيها، وزوال أنظمة الحكم الشيوعية فيها، إلى إبداء أوروبيتها على نحوٍ فصيحٍ وصولاً إلى عضويتها في الاتحاد الأوروبي؟ وإذ تطلَّعت أوروبا إلى تحقيق استقلالية قرارها في وجه عُظميَيْن، يأخذان منها ثمن تحريرها من النازية مزيدًا من الوصاية عليها والنطق باسمها (عبر "حلف شمال الأطلسي" أو عبر"حلف وارسو")، كانت تدرك أن الخيار التعاوني والتوحيدي وحده يفتح أمامها أفق الاستقلالية، وأن مدخله الوظيفي الممكن -ولكن الضروري والتأسيسيّ- هو التعاونُ الاقتصادي بحسبانه الوسيلة الناجعة لتكوين نسيجِ مصالح مشتَرَك من شأنه توليد ديناميات توحيد في المديَيْن المتوسط والبعيد. ولقد كان للتشابه في البُنى والمعطيات الاقتصادية بين بلدان غرب أوروبا أن يُسَهّل سياسات التعاون، ويرفع الكثير من العوائق من أمام إرادة تكوين ذلك النسيج. لم تكن أوروبا حينذاك تعاني من نقصٍ في الواقعية حتى تضع على جدول أعمالها مهمات توحيدية أعلى ممّا تستطيعه لحظتئذ. عانت كثيرًا من فقدان الواقعية في النصف الأول من القرن العشرين وفي القرن الذي سبقه، فطلبت دولٌ منها المستحيل، فكانت النتيجةُ حروبًا أرهقتها، ودمَّرت عناصر المِنْعَة فيها. لذلك ما كانت مَعْنيَّة -وهي تدشّن سيرورتها التوحيدية- بالتفكير في وحدةٍ سياسية، أو في جيشٍ وقرارٍ عسكريٍّ موحَّد، كعنوانٍ لاستقلاليتها. كانت تعرف أن الوصاية العسكرية عليها ستطول مادام هناك استقطابٌ دوليّ وحربٌ باردة؛ وكانت تعرف أنها لا تَقْوى على الدفاع عن نفسها حتى بامتلاك سياسة دفاعية مشتركة وجيشٍ موحَّد مستقل؛ ثم كانت تعرف أن وحدة القرار السياسي تمتنع -هي نفسها- عن التحقق من دون مقدّمات مادية (اقتصادية). لذلك، اختارت مستفيدة من درس الواقعية السياسية، بل بمقتضى المقاربة العقلانية، أن تضع للمشروع الأوروبي أفقًا متواضعًا، ولكنه أفقٌ فعّالٌ ومنتجٌ. وهكذا اختارت لمشروع وحدتها عناوين اقتصادية، في المقام الأول، واختارت أن تشتغل على هذه العناوين بنَفَسٍ واقعي، تدرُّجيّ، فتُخْضِعُها لعملية تَمَرْحُل تستند إلى فكرة الممكن الواقعيّ من دون أن تذهل عن فكرة الواجب (الاستراتيجي). قدَّمتْ أوروبا بتجربتها التوحيدية، منذ ذلك الحين (أعني منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين)، درسًا -ولكن هذه المرّة ليس درسًا نظريًّا- في معنى الاستقلالية (استقلالية الإرادة، واستقلالية القرار، واستقلالية الوطن): لا يكونُ استقلالٌ سياسيٌّ ولا استقلالٌ للسياسة الأمنية والدفاعية إلاّ متى كان هناك استقلالٌ اقتصاديّ واندماجٌ إقليمي يوفر لهما (أي للاستقلالين) الأساس والبنية التحتية. في الأثناء، كان درسٌ ثانٍ يكرّس نفسَه: التوحيد السياسي الحقيقي يبدأ من التوحيد الاقتصادي وينتهي إليه. تحررت أوروبا من النازية بجيوشٍ أجنبية (الجيوش السوفييتية والأمريكية) وليس بقدرتها العسكرية الذاتية المتهالكة أمام الجيش الألماني، ثم لم تلبث أن أخضعها المحرِّرون لإرادتهم. ولقد أدركت مبكرًا -وقبل أكثر من نصف قرن- أنها لن تتحرَّر منهم بواسطة جيوشها، وإنما فقط بوحدتها وقدرتها الاقتصادية. هل يحصل اليوم غير هذا؟