تعد القرارات الاستراتيجية واحدة من أكثر مصادر نجاح القادة في كل موقع وفي كل صناعة؛ لكن عدداً قليلاً من القادة يفهم كيف يصل إلى ذلك، أو كيف يحصل على أكثر ما يمكن من مثل تلك القرارات. بل إنه ليس من الغرابة القول بأن اختيار أحد الاتجاهات الاستراتيجية، ثم العمل بعزم شديد في ذلك الاتجاه، من أقوى المؤشرات على وجود القيادة الجيدة، أو حتى مهارات الإدارة الناجعة. لكن الأمر المدهش، أنه بالرغم من أهمية استلام مثل هؤلاء دفة الإدارة، إلا أن هذه المهارات الضرورية ما زالت نادرة، إلى الدرجة التي تجعل انتقاء القادة الممتازين من بين متوسط الطاقم الإداري أمراً في غاية الصعوبة. وقد درست بعض المراكز العلمية العوامل المهيئة للتعرف على القادة الناجحين في وقت مبكر، فحددت بعضها ثلاثة مصادر مختلفة لخلق تلك الصفات لدى القائد؛ أولها القائد بالفطرة (وهو من يملك صفات شخصية مؤهلة لتكوين الكاريزما)، والثاني مرتبط بالتدريب، الذي يحصل عليه المرء في طبيعة عمل محدد، ويكون متقناً لمهارات التعامل البشري الهرمي في ذلك النوع من الأعمال، أما الثالث، فيتعلق بالدوافع المحفزة لشخص ما للارتقاء إلى موقع قيادي، مع وجود العناصر الرئيسة اللازمة لتسلم دفة القيادة، حتى وإن كان بشكل جزئي فيما يوكل إليه من أعمال. التردد وتضييع الفرص يتيح للمنافسين التقدم إلى الأمام في الصراع على الإنتاج والتسويق والإقناع فالمصدر الأول المتعلق بالفطرة كان قد تناوله بالتحليل سنة 2010م عالم النفس جورج بوتوروسكي في جامعة ميتشجن، ووجد أن سمات خاصة في الشخصية (مثل الاستقرار العاطفي، والرضا عن الذات، والجسارة الاجتماعية، والقدرة على السيطرة) تعطي صورة عن كون المرء أكثر قدرة على القيادة من الآخرين، وأقرب للصرامة في اتخاذ القرارات الجريئة. فإذا أصبح الشخص الإداري في مواجهة مع استراتيجيتين متساويتين في الجاذبية؛ فإن النموذج الخائف (الأقل استقراراً عاطفياً) من الإداريين الذين يخافون من إغضاب أي أحد، سيمددون الجدل بشأن الاختيار إلى أسابيع أو عدة أشهر قبل اتخاذ القرار. وفي النهاية يكون الفريق راضياً بطول الجدل، وأخذ اعتراضات كل فئة على محمل الجد، لكن الاختيار يكون خليطاً من الاتجاهين، إن لم يكن أيضاً قد فقد كل اتجاه فاعليته. أما الإداريون الحازمون بطبيعتهم، فإنهم يعلنون منذ البداية، بأنهم سينظرون في حجج كل فئة؛ لكنهم في النهاية سيختارون ما يحكمون بأنه الأفضل لفريق العمل. وبهذا يتخذون القرار في وقت مبكر، ثم يتحركون بسرعة لإدماج الفئتين في العملية التنفيذية للقرار. وسيكون بعض الأعضاء غير مسرورين عن الاختيار، لكنهم يكونون مقتنعين بوضوح الرؤية في الاتجاه الذي اتخذ القرار فيه. فيحقق الفريق في هذه الحال تقدماً ملحوظاً في إنجاز العمل ضمن الاستراتيجية المختارة، التي تعكس مستوى أداء الفريق المتجانس، مما يرفع تصنيف العمل ورتبته. وفيما يتعلق بالمصدر الثاني، وهو عامل التدريب، قام كل من شيلي تايلور من جامعة كاليفورنيا وبيتر جولويتسر من جامعة نيويورك في منتصف التسعينات من القرن العشرين بأبحاث في هذا الشأن، واكتشفا أن الناس عندما يتأملون في القرار الذي لم يتخذوه بعد، فإنهم نظرياً يظهرون مؤقتاً السمات الشخصية نفسها (العصبية، ودرجة دنيا من السيطرة، والتشاؤم)، وهي السمات التي تنسبها دراسة ميتشجن إلى الحزم والصرامة. لكن بعد اتخاذ القرار، والبدء في جدولة مراحل التنفيذ، تبدأ أدمغتنا بصورة آلية في الانحياز لتلك الاستراتيجية المختارة. وبشكل مفاجئ نشعر بالثقة، والقدرة على التحكم، بل والتدرج في سلوك متزايد نحو الصرامة. وبكلمات أخرى، فإننا جميعاً نملك القدرة النظرية لنكون حازمين أو غير ذلك. وفي بعض الأوقات تصل ببعضنا الظروف إلى أن يكون حازماً على غير العادة؛ لكن القادة الناجحين من منظور كيفن وايلد هم –ببساطة– يتدربون على كيفية اتخاذ القرار الحازم في وقته المناسب. وهكذا تكون اللحظة الحاسمة في اتخاذ القرار هي من يضع القيادي في مواجهة التخوف الداخلي، الذي يتغلب عليه تدريجياً مع تكرار حوادث مواجهة الذات، ليكون في كل مرة أكثر حزماً من سابقتها، خاصة بعد تجاوزه لمراحل التشكيك فيه من الخارج. وبذلك تكون المفارقة قائمة على أن المرء محتاج إلى أن ينغمس أكثر في مرحلة الحسم، ليتخذ قراره بالحزم في اختيار الاستراتيجيات المناسبة عند مفترق الطرق. وفي حالة المصدر الثالث، المرتبط بالدوافع المحفزة، قام بيل سوليفان عام 2006م في شركة أجيلنت للتكنولوجيا بدراسة لوضع الطاقم الإداري في شركته، وتوصل إلى أن قرارات القادة فيها لا تتواكب مع التغيرات الصناعية السريعة، مما جعل إدارة الشركة تقفز بنسب كبيرة إلى الأمام مقارنة بأمثالها في قطاع التكنولوجيا الصناعي. فقد وضع سوليفان بالتفاهم مع القيادة العليا في الشركة نموذجاً بسيطاً يتمثل في الشعار التالي: "أسرع إلى الفرصة!"، حيث توجه أسئلة إلى كل موظفي الشركة عن مدى الحزم في اتخاذ القرارات لدى مختلف طبقات القيادة في الشركة. فأصبح القياديون فيها واعين بأن قراراتهم التي يتخذونها ستكون من جهة مقدرة، ومن جهة أخرى يكافأون عليها في الهيكل الإداري. أما مهارات التفكير النقدي لدى أولئك القادة، فقد كانت سبباً في وعيهم بقيمة هذا التصنيف، ودواعي الاستمرار في الحزم الموضوعي عند استدعاء الضرورة؛ ذلك لأن التردد وتضييع الفرص يتيح للمنافسين التقدم إلى الأمام في الصراع على الإنتاج والتسويق والإقناع. وهي الفرص التي إن ضاعت مرة، فقد لا تعود أبداً.. وطوبى للمتراخين في شرقنا الأبي الوئيد!. [email protected]