العنف بلا لون وبلا جنس وبلا دين وهو كذلك بلا هوية. وكل الذي يجب علينا فعله إذا أشردنا سلوك الطريق الخاطئ في تفسير ومعالجة العنف هو أن نجنسه أو أن نصدر له بطاقة تعريف عرقية أو عقائدية. وبزعمي أن تاريخ كل ملة وجنس وأمة من البشر قد اتخم بالعنف لدرجة أنه لم يترك لها فرصة للزهو على غيرها أو مجالاً للادعاء أنها لم تعرف العنف أبداً. ولما عرفنا العنف كنا كغيرنا من المجتمعات في العالم فلسنا مختلفين عنهم في شيء ولم نكن في يوم من الأيام نموذجيين في أفكارنا ونظمنا حتى نفاجأ به يتربص بنا في أزقتنا وطرقاتنا فنحن خلق من خلق الله نشترك وإياهم في المكان والزمان وتجري علينا كما تجري عليهم سنن الله الاجتماعية والكونية التي فطر الوجود عليها. إذاً فلا مبرر لان نخرج من إطار الموضوعية ونحن نحلل هذه الظاهرة فنكون ذاتيين نفسرها في إطار دائرة مركزها تلك الذوات التي مارست العنف والإرهاب ومحيطها ما يستلزمه وجودهم من انحراف مادي ملموس يتمثل في أشخاص ومؤسسات يمكن محاكمتها وإلغاؤها ومصادرتها بل علينا أن نستبدل تلك الدائرة بدائرة أشمل وأوسع يكون في مركزها العنف كموضوع ومحيطها الظروف المادية والنفسية التي تغذيه وترعاه وهذا جهد يستلزم شجاعة أدبية تربط السبب بالمسبب الحقيقي دون خجل أو مجاملة أو أن نستدعي كعادتنا أسبابا خارجية عابرة للحدود ككتاب أو كاتب أو تيار فتكون مشجباً نعلق عليه حمل المسؤولية الثقيل ونرتاح. ولقد برر بعض المعاصرين العنف بأنه تصرف ناتج عن الخوف من القوة التي يمتلكها الطرف الآخر أو الخوف من تهديدها وقد نجد ذلك مقنعاً للوهلة الأولى بينما لو تأملنا في كثير من حوادث العنف سنجد أن الدافع لها هو امتلاك القوة فقط فعندما يمتلك طرف القوة ويظن أنها كافية لفرض رؤيته ابتدأ العنف ليقابله الآخر بعنف مضاد، عندئذ يكون (العنف عند المقدرة). ولعلي أيها القارئ الكريم أطبق هذا المفهوم على نوع من العنف نعيشه هذه الأيام في مجتمعنا ألا وهو عنف الخطاب فنحن لا نتصور القوة فقط في امتلاك السلاح الأبيض والأسود أو امتلاك السلطة الزمانية والروحية بل القوة هنا معنى شامل لكل سلطة فلنا أن نتصورها أيضاً في القلم أو الميكرفون أو كاميرا التلفزيون أو المنبر أو الجريدة. والسؤال الذي يبرز أمام أعيننا الآن هو: أليست تلك القوى توظف بعنف في مجتمعنا اليوم؟! أليس فينا من إذا اقتدر على القلم والميكرفون والمنبر والجريدة وكاميرا التلفزيون مارس بها التشويه والتمثيل بجسد الحقيقة الحي؟!. هذا النوع الخفي من العنف هو البداية المعتادة للطريق الأعلى صوتاً والأكثر تكلفة. يا سادة إن من أخطأ الطريق ذات مرة وتنبه لخطئه فإنه لا يستمر في سيره إلى الأمام بل يتوقف ثم يعود أدراجه عله يهتدي إلى النقطة التي انحرف فيها عن الجادة فلماذا نهرول نحن إلى الأمام ونحن نعلم أننا ضللنا الطريق. إننا ومنذ زمن بعيد وقعنا أسارى لخطاب التصنيف العنيف الذي يمارسه كل مقتدر قوي ليعلق أسباب الانهيار والتخلف والانحطاط و... و...(واسرد ما شئت من ألفاظ البؤس والكآبة) على الطرف الآخر بدون تفريق بين الأطياف والعقول وتباينها واختلافها و اليوم نسمع نفس النغمة هي هي ذاتها لم تتغير ولم ترتق وكأن بعضنا يرزح تحت وطأة تاريخ ثقيل من العداوة وتعمره رغبة جامحة في تصفية الحسابات أو قل الانتقام للذات أو ربما فروسية جامحة لا تحيى بلا معارك ولو كانت ضد الطواحين. إن إعادة القافلة إلى الطريق الصحيح يحتاج إلى شجاعة حقيقية لا نجد معها غضاضة في مراجعة الذات والاعتراف بأخطاء الماضي وكذلك استيعاب ما لدى الآخر بحثاً عن التكامل المنشود إنها الحاجة لخطاب جديد وثقافة جديدة في عالم جديد.