بالرغم من ثورة التكنولوجيا واقتحامها مختلف مجالات حياتنا اليومية إلا أن "طقوس الكتابة" التقليدية لم تفقد حميميتها ونكهتها الخاصة عند كثير من الأدباء والمثقفين الذين توطدت علاقتهم "بالقلم والورقة " للحد الذي لا يمكنهم الاستغناء عنهما وإن اقتنوا أحدث الهواتف الذكية والأجهزة الحاسوبية، التي يصفونها بأنها علاقة لا تتسم بتلك الحميمية نظرا لما يصحب الكتابة عبرها من آنية واستعجال وعدم استشعار برسم الفكرة عبر عبارات تخطها أنامل المبدعة أو المبدع، وكأنه بذلك يرسم مشاعره فيما يكتب، متجاوزا بذلك مجرد كتابة الفكرة، التي تصبح "خربشاتها" جزءا من نصه الإبداعي الذي يتأمله لمزيد من عمق الإحساس بكتابة ذاته في نصه. عبدالرحيم الأحمدي يقول المؤلف والناشر عبدالرحيم الاحمدي: لقد صحب القلم والورقة مسيرتي في الكتابة منذ أن طرقني هاجسها، وأصبح اليوم من الصعب التخلي عن هذه العلاقة الوطيدة، وأعتقد أن الورقة والقلم لا يمكن الاستغناء عنهما، فهما رفيقان وفيان لا يرتبط توظيفهما بأسباب أخرى كما هي الحال في تقنيات الكتابة الحديثة، كما أن استخدام الورق والقلم يساعد على الإلهام وتوارد الخواطر وحفظ المسودات بخطوات الكتابة. وعن تأثير تقنيات الكتابة الجديدة على الأجيال القادمة، أشار الأحمدي بأن الأجيال تنحاز إلى منتجات زمنها، وسيكون الكيبورد رفيقا أثيراً لهم لأنه يتناغم معهم، ويحسنون استخدامه وتتجدد تسهيلات استخدامه، معتبرا زمن القلم والورق قد ولى، وإن صمدت بعض الحالات لأسباب تقنية وأخرى مهارية عجزت عن مجاراة الجديد، لينتصر الأكثر قبولا في مجتمعه، مختتما حديثه بوقوله: لما أزل أكتب بالقلم، وفي ذات الوقت أتمنى أن أجيد استخدام التقنيات الحديثة في الكتابة، لأنها تيسر كثيراً وتغني عن موظف الطباعة، وتسهل العلاقة بمصادر المعرفة. سعد البواردي من جانبه علق الأديب سعد البواردي على هذه العلاقة قائلا: مازلت اكتب بالقلم والورقة، لأني من بقايا جيل الورقة والقلم فهي ما ارتاح إليه وتعودت عليه طلية أيام عمري، مبينا أن الصراع بين القديم والجديد يأخذ أدواته المختلفة كما هي الحياة التي تجسد في خطين متجاذبين الاصالة والمعاصرة، معتبرا أن المهم المضمون والمحتوى وما يقدمه الكاتب من نص والباقي مجرد أدوات تقدم هذا النص عبر قنواتها المختلفة. ومضى البواردي في حديثه قائلا: عبر نصف قرن مضى كان الخطاب الفكري في حدود إمكانياته ووسائل طرحه التقليدية وفي حدود أطره وآفاقه المحدودة التي يستوعبها، ولأن عجلة الحياة والمتغيرات المستحدثة علميا والمتمثلة في وسائل الاتصال السريع وما تضخه من خلال منابرها المبتكرة أمكن لها القدرة على تغيير الأدوات وتوسيع رقعة دوائرها بشكل مذهل، جعل الماضي بقدراته المحدودة مجرد بدايات وأحال الطقوس المرتبطة بالكتابة التعليمية إلى ما يشبه الذكريات ومع هذا التحول السريع، فالماضي بقلمه وصفحاته وإمكانياته المتواضعة يحتفظ بنكهته وأصالته وبعقلانية بدينامكة المعاصرة العابرة للحدود والقيود وما تضخه من كنز رهيب من المعلومة والخبر بكل ما يحملاه من غث وسمين لان أبوابه مفتوحة على مصراعيهما، وفي حلقة السباق بين أداتين بدائية الأولى وهي فن الممكن، وبين الثانية التي تسابق روح الزمن بخطوات سريعة وواثقة اعتقد أنها نفس المقارنة بين من يمتطي الإبل وبين من يركب السيارة، مؤكدا أن هذا التباين بين العلاقتين لا يعيب ولا ينتقص من قدر جيل مضى تعامل على قدر قدراته المتواضعة. د. مسعد العطوي كما رفض الدكتور مسعد العطوي، التخلي عن روح الكتابة القديمة التي ألفها واعتاد عليها قائلا: الكتابة بالقلم هي القوة التي ألفنا صحبتها، وهي الهواية والمهنة التي نسعد بممارستها، ولكن التحول مع المستجدات خاصية بشرية، وعقل الإنسان قابل لها إذا بنى فكرة على حرية الاستقبال وحركته، والإنسان الواعي يأخذ بالأفضل والأسلم والأكثر سرعة وإنجازا، ولا شك أن الكتابة المباشرة على الأجهزة الحديثة استمالت الكثير. وأضاف العطوي أنه من المثقفين من استطاع أن يمارس الكتابة، مشيرا إلى أن كثيرا من الشعراء يكتبون قصائدهم على الجهاز مباشرة، وبأن الأكثر ممارسة هم أولئك الشباب الذين صحبوا تلك الأجهزة منذ طفولتهم، مردفا قوله: مع هذا يظل للقلم ميزات إبداعية، وفكرية، وعقلانية، فالكاتب يجيل النظر المرة تلو الأخرى في الورق، ويستطيع أن يضيف ما يشاء بحضور الفكرة والتأمل والتصحيح ومعرف السياق وتأثيره، ويكون له نفس مطول، وهذه تكون في كتابة الآلة التقنية غير واردة لكونها كتابة تأتي على عجلة من الأمر، فتكون بذلك أقل تأملاً، واستحضار للنص كاملاً، لذلك فإني استخدم الورق من أجل الوقوف طويلاً عند النص، ومن أجل ترابطه وتنسيق سياقه ومن أجل الإضافة الفكرية. زينب غاصب وعن تحولات هذه العلاقة الحميمية من أداة إلى أخرى قالت الشاعرة زينب غاصب: في حال كانت الكتابة نثريه فإن تلك الحميمة التي تربطها بالقلم والورقة تختفي قليلا كون النثر عموما في المقالة يستند على نقاط محددة وموضوعات مرتبة مسبقا، ومن هنا فالكتابة على الكمبيوتر تصبح سهلة المباشرة، أما بالنسبة للشعر فمن المستحيل أن تنتهي هذه الحميمية، لأن الشعر حالة لاشعورية فوضوية تباغت صاحبها بلا موعد، وبلا استئذان، لذا من الصعب الاستغناء عن القلم والخربشة به على الورقة، لأن الخربشة هي التي ينهمر منها التدفق ومن الصعوبة أن تكون هذه الحالة منسجمة مع الكمبيوتر، ففي هذه الحالة يصبح الكمبيوتر بمثابة المبيضة بعد كتابة القصيدة المسودة التي هي بيدر المخاض الشعري. وأضافت غاصب أنها سبق وأن كتبت عن هذه العلاقة نصا قبل سنوات بعنوان "أخربش كي أتدفق " أعلنت فيه حميمية الورقة والقلم للشاعر، مردفة قولها: أعتقد أن الحميمية بين الكاتب والورقة والقلم ستظل أبدية، بينما الكمبيوتر والأجهزة الأخرى تبقى الرديف الذي ربما يرسم القصيدة بآنية الشكل فقط، أما الصور والشعرية وثقافة اللغة فلا تكون إلا عن طريق الورقة والقلم.