لكل وتر مفتاح يطرب السامعين ويستثير مشاعرهم ويلهب العواطف، فالقصيدة قد تلهب المشاعر، وكذا الحكمة والقول الأثير قد يدغدغ المشاعر. واليوم في عصر الفضائيات تنوعت الاثارة وأصبح للتلاعب بالمشاعر والعواطف، وكذا العقول، مجالات وأساليب تجذب لها كثيرا من البشر يقدمون عواطفهم في مهب الرياح الفضائية لتلعب بها وتشكلها كما يشاءون. إذا كان ما يقال عن خصومة أصحاب الصنعة الواحدة صحيحا، فقد انتقلت عدوى تلك الخصومة مؤخرا إلى الفلكيين الذين يحتلون شاشات الفضائيات في مطلع كل عام ميلادي، شأن بعض الجنرالات المتقاعدين الذين تستضيفهم الفضائيات العربية عند كل نازلة، ومن تلك النوازل حربا الخليج الأولى والثانية وما تلاهما من أحداث. وغالبا ما تكذب نتائج تلك الحروب توقعات السادة الجنرالات المبنية على الأمنيات، وعلى دغدغة مشاعر الرأي العام. وقد تابعت ليلة رأس السنة الميلادية على شاشة التلفزيون أحد (جنرالات الفلك) وهو يسرد توقعاته بدلالاتها العائمة والمحددة. وبعد ذلك بيومين اطلعت في موقع (إيلاف) الإلكتروني على لقاء مع فلكي آخر هو الأستاذ خضير طاهر.كان الرجل يقلل من أهمية ما قاله زميله في هذا الحقل. ومما جاء على لسانه في هذا السياق: (إن أغلب الكتابات والتوقعات التي تنشرها الصحف والمجلات هي ليست حقيقية وكاذبة وغالبا ما يكتبها صحفي ناشئ تحت التدريب). وما يقوله خضير طاهر لا يختلف عما ذكره أنيس منصور. فقد تولى، وهو الكاتب الكبير، كتابة الطالع المتفائل عندما كان يرأس تحرير (آخر ساعة)، أي الطالع الذي يدغدغ عواطف القراء بما يتمنون أن يؤول إليه الحال. وأوكل تلك المهمة، كذلك، للكاتب الساخر أحمد رجب عندما كان نائبا له في مجلة (الجيل). وعن تلفيقات كتَّاب الأبراج يروي أنيس منصور أنه قد لاحظ أن كلام أحمد رجب في أحد الأبراج شخصي ويتوجه إلى امرأة معينة . فما كان منه إلا أن شطب ما كتبه زميله وكتب مكانه كلاما مناقضا له أشد المناقضة. وفي اليوم التالي جاءه أحمد رجب صارخا: (خربت بيتي.. هدمت إللي بنيته في سنة.. حرام عليك.. أقول لها إيه دلوقت!). وتلك حكاية ظريفة قد تسبب الإحباط لأولئك القراء المولعين بذلك الهراء. أعود إلى لقاء الفلكي طاهر الذي اعتبر توقعات زميله في حقل التنجيم تخرصات يراد بها دغدغة مشاعر الرأي العام العربي. قلت لنفسي وقد قرأت هذا الكلام: يا ساتر! ها هي عدوى دغدغة المشاعر تنتقل إلى الفلكيين، وكانت من قبل حكرا على بعض الساسة والإعلاميين والخطباء المفوهين. الكل يحاول أن يدغدغ مشاعر أولئك البسطاء ويخاطب عواطفهم بدلا من عقولهم، حتى لو كان ذلك التهييج على حساب الحقائق وضد مصلحة الجمهور الذي ما أن يرى جنازة حتى يشبع فيها لطما! أعاد ذلك إلى الذاكرة قصة ساخرة للكاتب التركي عزيز نسين عنوانها (الدغدغة). وهي حكاية عامل في مقلع حجارة نسميه في الخليج (مقطع حجارة). أحب ذلك العامل فتاة اسمها آسيا وأحبته. وحين ذهب لطلب يدها من أبيها بالغ الأب الجشع في مهرها حتى بات الزوج المسكين (على الحديدة) حسب التعبير الدارج. كانت آسيا فتاة مرحة ضحوكة عذبة الحديث، وكان خطيبها يسألها متعجبا: (من أين تعلمت كل هذه الكلمات؟). وفي ليلة (الدخلة) صمتت آسيا صمت القبر، وحاول العريس أن يستعين ب(الدغدغة) علها تتكلم أو تضحك دون فائدة، توسل إليها فلم تفه بكلمة واحدة، ضربها دون جدوى، شج رأسها حتى سال دمها فلم تبك أو تصرخ. وكان التقليد يقضي أن لا تتكلم العروس حتى يقدم لها عريسها هدية الزواج التي يسميها أهل الخليج (الصباحة). لكن كيف يستطيع أن يقدم لها هدية الزواج وقد باع ما فوقه وما تحته كما يقول؟ ساعده أحد الأصدقاء فاشترى حَلَقَاً من الخرز الأزرق وعاد إلى البيت. (يا بنت آسيا .. انظري ماذا جلبت لك!)وإذا بها تتعلق برقبته وتبدأ بالضحك. (ثم تحولت آسيا إلى آسيا الأصلية، وأصبحت كطير غابة تغرد وتغرد. تقول وتقول). وأيا كانت الرسالة التي أرادها عزيز نسين من هذه (الدغدغة) التي عنون بها قصته فإنها تدعم الفكرة التي يقوم عليها هذا الموضوع، فدغدغة المشاعر والعزف على أوتار العواطف لم تؤد أبدا إلى نتائج إيجابية، بل قادت إلى حروب وويلات وكوارث اجتماعية واقتصادية وبيئية. وقد كان الناس بحاجة إلى من يقدم لهم ما ينفعهم لا ما يدغدغ عواطفهم، أو يؤجج مشاعرهم، أو يلهب أكفهم بالتصفيق. وبخلاف آسيا التي لم تستجب لإغراء الدغدغة، فإن الرأي العام النائم في عسل الأحلام غالبا ما يستجيب لدغدغة الشعارات، ويتعلق بها تعلق الغريق بالقشة. وغالبا ما يقع ضحية تلك الشحنات اللغوية التي تخاطب عاطفته، وتتلاعب بعقله، عندما يستجيب لكل زوبعة في فنجان الوهم، ولإغراء الخطب العصماء التي تلهب الأكف، وتشق الحناجر، وتؤذي الآذان، وتهندس الكارثة بعد الأخرى. ومن المؤسف، والمحير كذلك، أن تسويق الوهم أصبح أكثر إغراء من إنشاء مصنع أو شق طريق أو بناء مستشفى أو تشييد مدرسة.