لا بد أن يثير انتباهنا في أمر الفلوجة أنها ذبحت مرتين. مرة حين اجتاحتها القوات الأمريكية ودمرتها على من بقي فيها. ومرة ثانية حين شوهت صورتها ولطخت سمعتها، وقدمت في وسائل الإعلام بحسبانها وكراً للإرهابيين والسفاحين، الأمر الذي يثير سؤالاً كبيراً هو: لماذا استبيح عرض المدينة إلى ذلك الحد؟ (1) أدري أن كل "جريمة" الفلوجة أنها رفضت الركوع والتسليم بالإحتلال، فقاومت بعناد وإصرار، وتحدت جبروت القوة الأمريكية ببسالة منقطعة النظير، حتى أفشلت هجوماً أريد به كسر إرادتها في شهر ابريل الماضي. ولم يردعها الهجوم فاستمرت في المقاومة وأصرت على تحدي الإحتلال. وحين حشد الأمريكيون حشودهم وقرروا الإنقضاض عليها من كل صوب، مستخدمين في ذلك أعتى أسلحتهم وأكثرها فتكاً وتقدماً، فإن ذلك لم ينل من عزيمة رجالها الشجعان، الذين لم يهابوا الموت من البداية، وأقبلوا عليه بنفوس راضية وأذرع مفتوحة وبقلوب من حديد. وإذ قرر الأمريكيون تحويل الفلوجة إلى مدينة للموت. وتحويل حياة المقاتلين فيها إلى جحيم، فإن أولئك المقاومين ظلوا ثابتين وصامدين، واستمروا يقاتلون بأسلحتهم المتواضعة معطلين الاستيلاء على المدينة طيلة عشرة أيام كاملة، ولا يزال من بقي منهم حياً يقاتل حتى هذه اللحظة، للاسبوع الخامس منذ بدء الاجتياح. وحسب شهادات الضباط الأمريكيين أنفسهم فإن المقاتلين العرب تصدوا بشراسة لجنود الاحتلال، وظلوا يؤثرون الموت على التسليم أو التقهقر، الأمر الذي جعل مهمة الأمريكيين أصعب بكثير مما توقعوا. قضية بهذا النبل، ومقاتلون بهذه البسالة، وموقف بهذا السمو، يفترض أن يصبح صفحة مشرقة تعتز بها الأمة وبقعة ضوء تتعلق بها الأبصار، ونموذجاً تقتدي به الأجيال الجديدة، تتعلم منه الفداء وتقرأ فيه دروس العزة والكبرياء. ذلك يحدث في أي مكان في الدنيا يدافع فيه أي أناس عن قضية عادلة. لكن المدهش في الأمر - والمفجع أيضاً - أن منابر الإعلام العربي تناقلت صورة للفلوجة وما جرى فيها على النقيض تماماً من كل ذلك. فقد كان الحديث ابتداء يدور عن "إرهابيين" تسللوا إلى الفلوجة وتمركزوا فيها. أو عن عملاء للنظام البعثي السابق يريدون استعادة سلطانهم. وحين كان البعض يترفق بهم، فإنهم كانوا يصفون رجال المقاومة بأنهم "مقاتلون". ولكن الصورة التي رسمت لهم ظلت سلبية دائماً. فهذا تقرير يتحدث عن جماعة منهم جلسوا يأكلون الموز ويترقبون لحظة لقائهم مع "حوريات" الجنة، في إيحاء بأنهم ما تطلعوا إلى الشهادة إلا لأسباب جنسية! - وذلك تقرير يتحدث عن العثور في الفلوجة على 20 سجناً أقامها الفدائيون، انتشرت فيها الاقفاص والدماء، وطالعتنا إحدى الصحف بعنوان في ذات الاتجاه ركز على "منازل الرعب في الفلوجة" - وأبرزت صحيفة أخرى عنواناً يقول: المارينز في مسلخ الزرقاوي. وهو يوحي بأن المارينز المنقذين والمخلصين أدوا دوراً جليلاً في الفلوجة أراح أهل المدينة من "المسلخ" الذي أقامه الزرقاوي. بل انني قرأت في عدة صحف عربية رواية على لسان أحد أبناء الفلوجة قال فيها إنه كلما سقطت قذيفة على المدينة، رفع يديه بالدعاء على المقاتلين (وليس الأمريكيين) الذين جلبوا إليها الخراب والدمار. صدق أو لا تصدق. هذا الكلام نشرته صحف عربية عن الذين كانوا يبذلون دماءهم ويضحون بحياتهم في الفلوجة دفاعاً عن شرف العراق وكرامته. وشاءت إرادة الله أن ترسم تلك الصورة في الإعلام العربي لمقاومة الاحتلال الأمريكي، في حين كانت بريطانيا في نفس الوقت تزيح الستار عن نصب تذكاري لتمجيد الحمير والكلاب التي استعان بها الجيش الإنجليزي في الدفاع عن المستعمرات أثناء الحرب العالمية الثانية. وبدا من المقارنة أن شبابنا المجاهد تمرغ سيرته في الوحل لأنه تحدى الاحتلال الأمريكي، في حين يمجد البريطانيون الحمير والكلاب لأنها عاونتهم على تحدي التهديد النازي! (2) لست في موقف الدفاع عن أية حماقات أو جرائم ترتكب باسم المقاومة، فتستهدف إثارة الفتنة أو الفوضى، وتزهق أرواح المدنيين الابرياء. أو تستبيح دماء المختطفين فتقتلهم بوسائل وحشية وبغير حق (بالمناسبة الأمريكيون ارتكبوا نفس الجرائم مع اختلاف طفيف في الأساليب) - لكنني أتحدث هنا على المقاومة التي تكتسب شرعيتها من إستهداف الإحتلال والدوائر أو المصالح المرتبطة به. وهذا إيضاح ذكرته أكثر من مرة في كتابات سابقة، لكن بعض أنصار الإحتلال وعملائه يرفضون استقبال تلك الرسالة، ويصرون في كل مناسبة على أن الذين يؤيدون المقاومة، يبررون قتل المدنيين وقطع رؤوس المختطفين، ويحنون إلى أيام حكم صدام حسين، حتى إذا كانوا من معارضيه وضحاياه. وهي حيلة مكشوفة وساذجة تستخدم للتغطية على التعلق بالإحتلال والاحتماء به، واكتساب الشرعية من مساندته. المزعج في الأمر أن تلك الحملة المضادة لها صداها في أوساط النخب الثقافية والسياسية، وأن كثافة القصف الموجه ضد المواقف الوطنية والشريفة حققت نجاحاً نسبياً (إعلامياً) في تلويث وتلطيخ سمعة بعض القيم النبيلة والعناوين الهادية، التي يفترض أن تستضيء مجتمعاتنا وأجيالنا الشابة في مسيرتها نحو المستقبل، فأصبح الجهاد فزاعة وتهمة يسارع كثيرون إلى التملص منها. وصارت المقاومة إرهاباً، أما الوطنية والاستقلال والوحدة وتحدي الهيمنة ورفض القواعد الأجنبية وتأييد حركات التحرر ودعوات مقاطعة المعتدين والظالمين، مثل هذه العناوين باتت تنسب إلى مرحلة "المراهقة السياسية"، التي تبث خطاباً طناناً يعمد إلى دغدغة مشاعر الجماهير واستثارتها. وهو ما يتعين مراجعته على نحو جذري في مرحلة "النضج" و"الرشد" التي بلغناها في ظل العولمة، ومع حلول القرن الواحد والعشرين. هذا الانقلاب الثقافي والفكري صار حقيقة واقعة وملموسة. ولعل البعض يذكر أنني تحدثت عن تجلياته واصدائه في أوساط المثقفين والإعلاميين في كتابات سابقة. ولكن ما أعادني إلى النظر إليه في هذا السياق، هو ما قرأته مؤخراً للدكتور فؤاد زكريا من تعليق قال فيه صراحة "إن أعمال المقاومة الحالية في العراق بعيدة عن الوطنية كل البعد". (الأهرام - 22/11). وهو منطوق ردده آخرون ممن نعرف هوياتهم وارتباطاتهم، ولكن المزعج فيه أنه صادر هذه المرة على لسان واحد كان يوماً ما من رموز الثقافة العربية المعاصرة، الذي نختلف معه في الموقف الفكري، ولكننا نحترم قدره ونعرف قيمته كمثقف ملتزم. ذلك أنه حين يصدر عنه حكم بهذا القدر من الإجحاف والتغليط على المقاومة العراقية، فإنه يعني أن ثقافة "الضد" حققت هدفاً ثميناً وكسبت منا موقعاً متقدماً. بل واخترقت صفوفاً عدة، حتى وصل تأثيرها إلى رجل في مثل سن الدكتور زكريا. (3) حين تتحدى الفلوجة الاحتلال الأمريكي، وتقف تلك الوقفة الباسلة التي كادت تحولها إلى ستالينجراد أخرى، ثم تصوب نحوها بشكل مفاجئ ومكثف كل تلك السهام المسمومة وتلقى على وجوهها كل تلك الأوحال والسخائم، هل تكون هذه مجرد صدفة؟ لقد تحدثت في الاسبوع قبل الماضي (16/11) عما اسميته ب "الغارة" على خطابنا الوطني، التي تمثلت في تنامي جرأة البعض على تجاوز خطوطنا الوطنية والقومية الحمراء، وهتك القيم المتعارف عليها في هذين المجالين. وأزعم أن محاولة اغتيال الفلوجة أدبياً ومعنوياً تعد حلقة جديدة من حلقات تلك الغارة التي لا تريد فيما يبدو أن تبقى في أمة العرب على أثر للعزة أو الكرامة. وهو ما يدعوني إلى تكرار السؤال: هل هذا حقاً مجرد مصادفة؟ لقد شجعني على إلقاء السؤال، واثار شكوكي في خلفياته، مقال كتبه باحث بريطاني اسمه "اندي رويل"، مهتم بشئون البيئة والعولمة والتضليل الإعلامي. اذ أثار انتباهي المقال حين طالعته في صحيفة "الخليج" الاماراتية (عدد 23/11)، من حيث أنه سلط ضوءاً قوياً على الأساليب والخطط التي توضع لتزييف الحقيقة وتضليل الرأي العام، الأمر الذي ينفي البراءة عن تلك الحملات أو "الغارات" الإعلامية التي تهب علينا بين الحين والآخر. أدري أن التضليل الإعلامي صار علماً يدرس في بعض الجامعات الأمريكية، كما أن الكل يدري أن غزو العراق رتب فيه أمر الإعلام جيداً، بحيث ألحق بعض الصحفيين بالوحدات العسكرية في وقت مبكر وتلقوا تدريباً خاصاً، حتى تحولوا إلى جزء من الحملة وبوق لمشروعها. ولئن كان تدخل السلطة المعنية في الدول الكبرى لممارسة التضليل الإعلامي في الأحداث اليومية معروفاً في دول العالم الثالث، إلا أنه يبدو مثيراً وجديراً بالرصد حين يمارس في الدول الديمقراطية الكبرى. وهي ظاهرة اتسع نطاقها في أعقاب 11 سبتمبر، حيث أصبحت الديمقراطيات الكبرى تلجأ إلى ذات الأساليب المتبعة في العالم الثالث، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالحريات المدنية والرقابة على الرأي العام. وما حدث في الولاياتالمتحدة مثلاً خير شاهد على ذلك، حتى اعتبره البعض بمثابة "انقلاب صامت" على المكتسبات التي تحققت والقيم التي استقرت على هذين الصعيدين. (4) تزييف الحقيقة في العراق كان محور مقال اندي رويل. وعلى حد تعبيره فإن ذلك التزييف أريد به اغتيال الحقيقة، "بحيث أصبح سادة القمع والقهر هم المنقذين، وأصبح المدنيون العاديون الذين يدافعون عن شرف وطنهم هم الإرهابيين. أما الضحايا العراقيون، الذين ماتوا بسبب القصف، ووصل عددهم إلى مائة ألف شخص، فلا ذكر لهم". وهو يعرض شواهد التزييف ذكر الكاتب أن وثائق الحكومة البريطانية السرية التي انكشفت منذ سبتمبر 2003 بينت أن مؤتمراً عقد في جنوب شرق العراق لدول "التحالف" التي شاركت في الغزو، وكان موضوعه هو "العمليات الإعلامية". ومن بين الذين حضروا إلى جانب الأمريكيين والبريطانيين، كانوا ممثلين عن جمهورية التشيك والدنمارك وايطاليا ولتوانيا وهولندا ونيوزيلندا والنرويج والبرتغال ورومانيا. وبينما تم الاتفاق على أن يركز إعلام التحالف على فكرة "تحرير الشعب العراقي"، فإن المؤسسة العسكرية البريطانية أهتمت في الوقت ذاته بمخاطبة الشعب والإعلام البريطانيين. وطرح خبراء تجميل الحملات الدعائية أكثر من 30 فكرة ورسالة رئيسية ليتم توجيهها إلى قطاعات مختلفة من الشعب البريطاني. وكان الاتجاه الغالب على تلك الأفكار يستهدف تبديد الشعور العام المتشكك في الأهداف البعيدة للغزو الأمريكي للعراق. وذلك عن طريق التركيز على مقولة "العراق للعراقيين"، وأن نزع أسلحة الدمار الشامل (التي لم تكن موجودة أصلاً) يمثل أولوية بالنسبة لبريطانيا، بما يوحي بأنها لا تسعى لأكثر من ذلك. ذكر صاحبنا أيضاً أن محاضر تم تسريبها تحدثت عن حملة إعلامية جرى ترتيبها في شهر رمضان الماضي أريد بها إشاعة الإنطباع بالإنجاز، بحيث تستقر في الأذهان فكرة أن "العراق الآن أصبح أكثر أماناً"، وهي الرسالة التي نسبها الجميع في ظل استمرار المذابح والانفجارات في أنحاء البلاد. أضاف أن أكثر ما يشغل المؤسسة العسكرية البريطانية في الوقت الراهن هو كيف تتمكن من تطويق وامتصاص احتجاجات عائلات الجنود البريطانيين الذين أوفدوا إلى العراق. وتقلق تلك المؤسسة إلى حد كبير حملة تقودها سيدة اسمها روز جنتل، قتل ابنها جوردون (19 سنة) في انفجار على طريق البصرة، بعدما بدأت تخاطب الرأي العام عبر وسائل الإعلام محملة رئيس الوزراء توني بلير مسئولية قتل ابنها. ومحتجة في ذلك بأن الحكومة التي أرسلت ابنها إلى العراق لم توفر له الضمانات الكافية لحماية حياته. ولإحباط جهود السيدة جنتل فإن وزارة الدفاع أرسلت تعميماً إلى جميع الصحف باسم "اشعار دي"، أخبرت فيه مسئوليها بأن الوزارة أتخذت تدابير معينة لحماية جنودها في العراق، وبسبب حساسية الموضوع واتصاله بالأمن القومي، فإن الوزارة ترى خطراً في نشر تفصيلات تلك الترتيبات. وهي رسالة فهم منها أن الوزارة تريد حجب الحقائق عن الرأي العام وعدم إطلاع الناس على ما يجري على الأرض في العراق. وذهبت وزارة الدفاع في ذلك إلى حد توجيه الجنود القابعين في العراق لكي يطالبوا زوجاتهم في انجلترا بعدم التحدث إلى وسائل الإعلام، حتى يظل الوجه الإيجابي لمهمة القوات البريطانية وهو المستقر في الأذهان. في ختام مقاله قال اندي رويل، إننا نسمع من العسكريين أنهم "حرروا" الفلوجة، لكن المشكلة أننا لم نعد نصدق أكاذيبهم، بل لم نعد نصدق حتى حقائقهم. تدعوني تلك الشهادة إلى إعادة صياغة السؤال الذي طرحته بحيث يصبح كالتالي: إذا كانت محاولة تحسين وتجميل دور القوات الغازية في العراق عامة والفلوجة خاصة عبر وسائل الإعلام أمراً مرتباً من جانب خبراء الحملات الدعائية، فهل يمكن أن يكون تقبيح صورة المقاومة وتشويهها في الإعلام العربي أمراً مرتباً بدوره؟ (5) تحتاج إجابة السؤال إلى تحقيق وتحر وتجميع للأدلة والقرائن وغير ذلك من الاستحقاقات التي ربما كان غيري أقدر على النهوض بها، لكن الذي يهمني في المشهد أن نلاحظ ثلاثة أمور. الأول أن عملية إعادة ترتيب خرائط العالم العربي والإسلامي - عن طريق التفكيك وإعادة التركيب - جارية في مختلف الاتجاهات على قدم وساق، وأن هذه العملية تركز على منظومة القيم السائدة في المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية. وما تدمير سمعة الفلوجة بعد تدمير العمران فيها إلا نموذج حي لذلك. الأمر الثاني أن الإعلام بأدواته الجبارة وهيمنته التي لا تقاوم هو الآن أحد أهم الوسائل - المعاول أن شئت الدقة - التي تستخدم في التفكيك وإعادة التركيب، ولذلك فإن التركيز على منابره وقنواته يحظى باهتمام فائق، كما أن الاختراق فيه أصبح بلا حدود. الأمر الثالث أن هذا الذي يحدث ينبغي أن يثير انتباهنا ويوقظنا دون أن يفزعنا، لأن تلك الألاعيب والحيل تتحرك في دوائر معزولة للنخب فاقدة التأثير، بل وفاقدة الثقة والاحترام أيضاً. ولا يزال العمق في مجتمعاتنا بفطرته ونقائه عصياً على التفكيك والاختراق. آية ذلك أن الإدارة الأمريكية بعد كل الذي عبأته ورتبته وجندته، ما زالت حائرة حتى الآن في كيفية كسب تعاطف العرب والمسلمين. وهي الآن بصدد إعادة النظر في الأبواق التي أقامتها وأنفقت عليها الملايين خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى أنها اتجهت مؤخراً إلى تخصيص 600 مليون دولار جديدة لتشتري بها ودّ العرب وتنزع من قلوبهم مشاعر البغض والكراهية لها. إنهم يصرون على السير وراء الكذبة، هنا وهناك، ويصمون آذانهم عن صوت ضمير الأمة في الفلوجة والرمادة وغزة وجنين. وليس ذلك شراً كله، لأن الأول هو طريق الندامة بامتياز، وما داموا قد اختاروه فعليهم أن يتحملوا تبعاته.