وأنا أطالع إحدى الدوريات المتخصصة في إدارة الأعمال وقفت عند أحد المشاهد التي تثرى عملية الإدارة في أي مؤسسة: مدرب في قاعة للتدريب قام بوضع جرة في وسط القاعة، وقال للمتدربين سنتدرب الآن على وضع خطة أسبوعية للعمل، فهذه الجرة تمثل أسبوعا كاملا وسنحاول ملأها بطريقة منطقية وعملية، أخرج المدرب كيسا كبيرا مليئا بقطع الصخور المتباينة الاحجام والاشكال واخذ يلقي بالقطع داخل الجرة حتى بدأت تتساقط على الاجناب، حاول المدرب زحزحة الصخور في الداخل فهز الجرة بشدة.. لكنه لم يستطع إدخال المزيد.. وهنا سأل المتدربين: هل امتلأت الجرة؟ فأجابوا بصوت واحد نعم، هز المدرب رأسه نافيا وقال: ليس بعد. ثم أخرج كيسا متوسطا مليئا بالحصى، وبدأ يلقى بقطع الحصى الصغيرة داخل الجرة فتستقر في الفراغات بين قطع الصخور الكبيرة، وعندما فاضت الجرة بالحصى، سأل: هل امتلأت الجرة، فرد المتدربون بصوت واحد: نعم، ابتسم المدرب وأخرج كيسا صغيرا مليئا بالرمل الناعم، وبدأ يسكب الرمل في الجرة، فتتسلل حبات الرمل الناعمة بين الحصى وقطع الصخور لتملأ كل الفراغات المتبقية، وعندما فاضت الجرة بالرمل سأل المدرب المتدربين: هل امتلأت الجرة؟ فرد الجميع نعم، ابتسم المدرب مرة أخرى وقال: قطع الصخور الكبيرة هي الأولويات، وقطع الحصى المتوسطة هي الأعمال الملحة، وحبات الرمل هي الأعمال الصغيرة التي تهم الآخرين. هذا المشهد يتناول أحدى القضايا الجوهرية في عالم الإدارة، إنها قضية الأولويات والثانويات، تلك القضية التي يفشل الكثيرون في التعامل معها إلى درجة تختلط لديهم المهام فلا يدركون من أين يبدأون وإلى أين ينتهون، للأسف الشديد الواقع يقول انه في كثير من مؤسساتنا العربية الخاصة والعامة تظهر المشكلات وتتضخم بسبب افتقاد الإدارة للأسلوب العلمي في جدولة مهامها وادارة الوقت بالطريقة التي تسهل من عملية أداء المهام، ما يحدث على مستوى المؤسسة يحدث على مستوى الفرد، حيث يفشل الإنسان في تحديد أولوياته في هذه الحياة، لا يستطيع أن يحدد الأهم فالمهم، يفتقد الموضوعية في تقييم مدى أهمية الأحداث التي تواجهه، ومدى أهمية الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، هذا الإنسان ربما يبذل مجهودات ضخمة في مواجهة الأحداث إلا أنه يكتشف في النهاية أن النتائج المتحصل عليها لا تتناسب مع ما بذله من مجهودات. وما يحدث على مستوى الفرد يحدث على مستوى المجتمع، حيث يفشل المجتمع في تحديد أولوياته في التعامل مع القضايا التي تمس مسيرته، لا يستطيع ان يستثمر موارده وامكاناته بشكل جيد، تبذل ادارة المجتمع مجهودات كبيرة في التعامل مع تلك القضايا ثم تكتشف ان المشكلات لم تحل وان الحلول مازالت مفقودة، إدارة الأولويات بالنسبة للفرد والمؤسسة والمجتمع بمثابة إدارة لمفردات الحياة اليومية ومن ثم السير بهذه الحياة نحو الأفضل أو الأسوأ. * استاذ إدارة الأعمال والتسويق المساعد