عندما طرح مدرس التاريخ على أحد تلاميذه سؤالا لاذ التلميذ بالصمت، وعندئذ منحه المدرس نظير صمته (صفرا). ولم يكن الصمت ناجما عن جهل بالإجابة، بل عن معرفة تجدّف عكس التيار، وتتفادى وزر المساهمة في الكذبة التاريخية. أما حين أجاب عن السؤال، وأشار إلى المسكوت عنه تاريخيا فقد طُردَ من الصف. وهذا المأزق الذي يصوره الشاعر الفرنسي جاك بريفير في إحدى قصائده (حالة) تعيد نفسها في كل الأوقات بصور وأشكال مختلفة. هكذا، ومنذ الصغر وبراءة الأظافر يحتفظ المرء لنفسه بإجابة واحدة، طلبا للعافية، وهربا من الحصول على صفر هنا أو هناك، لكنه يحتفظ بإجابة أخرى، وربما أكثر، للاستهلاك العام، تتعدد الإجابات والسؤال واحد. ولهذا، أيضا، تنشأ لغة ثانية أو ثالثة لا تسمي الأشياء بأسمائها، حيث الألفاظ هي "الأشواك المحيطة بالكرم" كما يعبر جلال الدين الرومي. أو حيث "أعطي الإنسان النطق ليخفي أفكاره" كما يعبر آخر. لغة يناجي بها المرء نفسه، وأخرى للاستهلاك الاجتماعي هي عبارة عن خطاب دائري زاخر بالهوامش والإكسسوارات اللفظية، يقول كل شيء ولا يقول شيئا، ويكون المسكوت عنه في هذا الخطاب أكثر من الكلام المباح. لا يوجد نص مجرد من المعنى. حتى الهوامش والإكسسوارات اللفظية تحتوي على معنى. لكن المعنى أو الدلالة شيء والحقيقة شيء آخر. ولو اطلعنا على إجابة التلميذ الذي طُردَ من الصف لوجدنا أنها لا تفتقر إلى المعنى، لكنه معنى يتعارض مع الحقيقة المترسبة في رأس المدرس، أو المدوَّنة في المقرر المدرسي. وللمدرس والمقرر والمجتمع سطوته وحقائقه الخاصة التي لا تعارض. لكن لماذا ترتفع نسبة المسكوت عنه في خطابنا الثقافي والاجتماعي؟ لعل السبب يكمن في هذه الحكاية الطريفة المعبرة التي لا تمر على المتلقي دون أن تترك في ذاكرته أثرا. حكاية رواها لي أحد الأصدقاء ذات مساء زاخر بالحكايات، وسوف أنقلها - بتصرف - فأحذف كثيرا من تفاصيلها التي لا يخل حذفها بالدلالة أو يحجبها عن القارئ، والعبرة في نهاية الأمر بالدلالة وحدها. جرى حديث بين اثنين من ثقافتين مختلفتين حول الدببة. والدببة حيوانات ذكية حادة المزاج سريعة الهياج ومقاتلة فتاكة. سأل الأول محدثه قائلا: "ترى كيف يمكنكم العيش بين أولئك الدببة؟ ألا تخشون على أنفسكم من بطشها؟". ورد الثاني قائلا: "المسألة في غاية البساطة، فقد اعتدنا أن نعزف للدببة على الكمان، ويبدو أن للموسيقى تأثيرها السحري، فما أن تستمع الدببة للموسيقى حتى تسترخي أعصابها وتصبح وديعة مسالمة لا تؤذي أحدا"! عندئذ تفتق حذر الأول عن السؤال التالي: "لكن لنفترض أن بين تلك الدببة دبا مصابا بالصمم لا يسمع موسيقاكم؟". وإذا فرضنا أن تلك الموسيقى لا تشبه كلمات أبي الطيب المتنبي الذي يقول: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أجل، إذا تجاوزنا ذلك المجاز الشعري الجميل، فإن التحفظ الذي أبداه صاحبنا في محله. وهو بيت القصيد في تلك الحكاية، بل هو مربط الفرس أو (الدب) إذا شئتم. ولو كنت مكانه لقادني الحذر إلى سؤال آخر هو: "ماذا لو كانت الموسيقى عذبة وجميلة ولها تأثير ساحر لكن ذائقة أحد الدببة متردية، ويصدق عليها قول أبي الطيب: ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدء مرّاً به الماءَ الزلالا الصمم، إذن، هو مشكلة المشاكل. ولقد طرد تلميذ بريفير من الصف لأن المدرس قد أصم أذنيه عن الإجابة التي قد تكون أقرب إلى الحقيقة مما هو مدوّن في الكتب المدرسية. ولكي تقص حكاية جيدة ينبغي أن تحصل على مستمع جيد، كما يقال. والصمم أنواع مختلفة: فهنالك صمم التأويل والقراءة الخاطئة، والصمم الأيدلوجي، والصمم التربوي، وهنالك الصمم المعرفي، الذي قال عنه المعري: ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى ظن أني جاهل لقد أراد تلميذ بريفير أن يتظاهر بالجهل، كما فعل المعري، ليحصل على (صفر) فهو أحلى الأمرَّين، إلا أن ذلك لم يتحقق. هكذا تنشأ حالة من الاغتراب، تشبه اغتراب التلميذ أمام أستاذه، والكمان أمام مجموعة من الدببة لا تسمع كما في الحكاية واغتراب العالِم وسط الجهلة، والدرر في يد الفحام، والعقد على جيد خالصة إذا صحت رواية النواسي واغتراب المرح الضاحك وسط مجموعة من الثقلاء لا يحرك شفاههم زلزال من الفكاهة. أما الاغتراب الذي يساهم عامة الناس في صنعه، فهو اغتراب ممزوج بالخوف من الإساءة، وقد عبر عنه أبو الطيب المتنبي بقوله: "أنا في أمّة تداركها الله غريب كصالح في ثمود ومن الصعب على المرء أن يكون شجاعا مع عامة الناس، كما أنه لا جدوى من عزف أجمل المقطوعات الموسيقية أمام جمهور ذي ذائقة صماء. وبعد: هنالك حكاية أخرى تقول: لقد حوَّل البهلوان الكراسي الخمسة إلى خمس وردات فظل الجمهور صامتا، وحوّل الوردات الخمس إلى خمسة خواتم ذهبية وظل الجمهور صامتا، وحين حوّل الخواتم الخمسة إلى خمسة فئران ضجت القاعة بالتصفيق! ويتساءل الراوي بعد ذلك قائلا: هل كان ذلك جمهورا من القطط؟ ولو أجاب تلميذ بريفير إجابة تتفق مع ما هو مدون في كتبه المدرسية لضجت قاعة الدرس بالتصفيق كذلك!