إذا كانت مهنة "المسحراتية" المعروفة في بعض البلدان العربية قد أصبحت مهنة شبه منقرضة بسبب الاشكال المختلفة للتقنيات العصرية للتنبيه وغيرها، ولم يعد يعمل فيها سوى فقراء الناس، فإن أول "مسحراتي" في التاريخ بعد بلال بن رباح مؤذن الرسول هو والي مصر عتبة بن إسحاق. وإن كان بلال يسحر الناس بأذانه، فإن عتبة بن إسحاق كان يسحر الناس بالأسلوب الذي نعرفه عن المسحراتي حتى اليوم. ويُعرف المسحراتى بأنه الرجل الذى يقوم بعملية التسحير ، والسحور أو عملية التسحير هى دعوة الناس لترك النوم لتناول اكلة السحور التي اوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم. ويستخدم المسحراتى فى ذلك طبلة تعرف ب "البازة" ، إذ يُمسكها بيده اليسرى ، وفي يده اليمنى سير من الجلد، أو خشبة يُطبل بها فى رمضان وقت السحور . والبازة عبارة عن طبلة من جنس النقارات ذات وجه واحد من الجلد مثبت بمسامير ، وظهرها من النحاس أجوف وبه مكان يمكن أن تعلق منه. وقد يسمونها طبلة المسحر ، والكبير من هذا الصنف يسمونها طبلة جمال. تعدد أساليب التنبيه وتعددت أساليب تنبيه الصائمين وإيقاظهم للسحور منذ عهد النبوة حتى اليوم، ففي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- كانوا يعرفون وقت السحور بأذان بلال، ويعرفون المنع بأذان ابن أم مكتوم. فقد كان هناك أذانان للفجر، أحدهما يقوم به بلال بن رباح، وهو قبيل الوقت الحقيقي للفجر، والثاني يقوم به عبد الله بن أم مكتوم، وقد بين النبي أن أذان بلال ليس موعداً للإمساك عن الطعام والشراب لبدء الصيام وإنما هو إذن للمسلمين لتناول طعام السحور حتى يسمعوا أذان ابن أم مكتوم، فجاء في حديث البخاري ومسلم "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا وأشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". وروى أحمد لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم وينبه نائمكم. فقد كان أذان بلال بمنزلة الإعلام بالتسحير في شهر رمضان، وما كان الناس في المدينة يحتاجون إلى أكثر من ذلك للتنبيه على السحور. إن في السحور بركة وعلى مر العصور، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد الولايات، بدأت تظهر وسائل أخرى للتسحير وبدأ المسلمون يتفننون في وسائله وأساليبه، حتى ظهرت وظيفة المسحراتى في الدولة الإسلامية في العصر العباسي. ويعتبر والي مصر عتبة بن إسحاق، أول من طاف شوارع القاهرة ليلاً في رمضان لإيقاظ أهلها عن تناول طعام السحور عام 238ه، وكان يتحمل مشقة السير من مدينة المعسكر إلى الفسطاط منادياً الناس (عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة). وفى العصر الفاطمي أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح، وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب لإيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجلاً للقيام بمهمة المسحراتي كان ينادى: (يا أهل الله قوموا تسحروا) ويدق على أبواب البيوت بعصا كان يحملها في يده. وكان التسحير بالجامع في فترات متفاوتة، وتردد الأهازيج أربع مرات، ففي التذكير الأول ينشد المنشدون: ==1== أيها النوام قوموا للفلاح==0== ==0==واذكروا الله الذي أجرى الرياح إن جيش الليل قد ولى وراح==0== ==0==وتدانى عسكر الصبح ولاح اشربوا عجلى فقد جاء الصباح==0== ==0==معشر الصوام يا بشراكم ربكم بالصوم قد هناكم==0== ==0==وجوار البيت قد أعطاكم ==0==فافعلوا أفعال أرباب الصلاح==2== وفى التذكير الثاني: تسحروا رضي الله عنكم، كلوا غفر الله لكم، كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً، كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. وفي التذكير الثالث: يا مدبر الليالي والأيام، يا خالق النور والظلام، يا ملجأ الأنام يا ذا الطول والإنعام، رحم الله عبداً ذكر الله، عبداً قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفى التذكير الرابع: اشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح، اذكروا الله في القعود والقيام، وارغبوا إلى الله بالدعاء والثناء، اشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح. وهذا اللون من التسحير لم تستخدم فيه الطبلة احتراماً للمسجد وقدسيته، وأما خارج المسجد. أشكال التسحير في الدول العربية وعلى امتداد العالم الإسلامي، اتخذ المسحراتي أشكالاً مختلفة،حيث انه فى المملكة ، يوقظ المسحراتي النائمين بقوله: (ربي قدرنا على الصيام واحفظ إيماننا بين القوم). وفي عمان بالطبلة أو بالناقوس وهو يردد: (يا نائمين الليل قوموا تسحروا، سحور يا مسلمين، سحور يا صائمين) وفي الكويت يقوم المسحراتي الذي يسمى (أبو طبيلة) بالتسحير ومعه أولاده فيردد (بعض الأدعية وهم يردون عليه). وفي اليمن يقوم المسحراتي بدق عصا على أبواب البيوت وهو ينادي على أهلها قائماً: (قوموا كلوا). وفي السودان يجوب شوارع المدينة والقري برفقة بعض الاطفال يحمل فانوساً ودفتراً به أسماء أصحاب البيوت حيث ينادى عليهم بأسمائهم قائلاً: (اصحى يا نائم وحد الدائم السحور سنة وفائدة للصائم). أما في سوريا ولبنان وفلسطين، فكان المسحراتي يوقظ النائمين بإطلاق الصفارة، وقبل رمضان يطوف على البيوت ويكتب على باب كل بيت أسماء أفراده حتى يناديهم بأسمائهم أثناء التسحير. و فى المغرب العربي يدق المسحراتى الباب بعصاه ليوقظ النائمين. وقد وصف المستشرق (إدوارد لين) طريقة التسحير في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر بقوله: يحمل المسحراتي طبلة صغيرة، ويصطحب معه غلاماً يحمل قنديلين في إطار من الجريد ويقف أمام كل بيت فيضرب بطبلته ثلاث مرات ويقول: عز من يقول: لا إله إلا الله محمد الهادي رسول الله أسعد لياليك يا.. ويذكر اسم صاحب البيت وأولاده. وحين ينادى فهو يذكر أسماء البنين ثم البنات، ولا يذكر أسماء النساء مطلقاً، فكان ينادى على طفلة: ==1== يا ست نادية يا حبيبة الصباح==0== ==0==يا عقد لولى فوق صدور الملاح يا مسك تركي أينما يذهب فاح==0== ==0==على جبل عرفات يجمع الله شملها في جاه نبي مرسل عليه السلام==0== ==0==أحياكم الله المولى إلى كل عام ==0==وكل عام وانتوا الجميع طيبين==2== فكان الأولاد والبنات يمنحونه بعض الحلوى والمكسرات وحتى يومنا هذا يمضى المسحراتي كل ليلة بالنقر على طبلته وهو يحمل عصا يخبط بها على كل باب صائحاً بأسماء أصحابها ولعلنا نعرف أن أشهر المسحراتية في مصر الحديثة هو الشيخ الراحل سيد مكاوي الذي تغنى بإبداع الفنان العبقري الشاعر فؤاد حداد مسحراتي الوطن فقال: ==1== اصح يا نايم وقول نويت==0== ==0==الشهر صايم وحد الدايم بكره إن حييت والفجر قايم==0== ==0==اصح يا نايم وحد الرزاق رمضان كريم اصح يا نايم وحد الدائم==0== ==0==السعى للصوم خير من النوم في ليالي سمحة، نجومها ساعة ==0== ==0==اصح يا نايم وحد الرزاق.==2== الصوت الجميل وتشير المصادر التاريخية إلى احتفاء الوجدان الشعبى المصرى بالمسحراتى وفنونه ، إذ يذكر إدوارد لين عن وظيفة المسحر فى القاهرة إبان النصف الأول من القرن التاسع عشر العديد من العناصر الإبداعية ، حيث كان لكل خط ، أو قسم صغير فى القاهرة مسحر . ويبدأ المسحر جولاته بعد الغروب بساعتين تقريباً (أى بعيد أداء صلاة العشاء) ممسكاً بشماله البازة ، وبيمينه عصا صغيرة أو سيراً يضرب به ، ويقف أمام منزل كل مسلم غير فقير ، وفى كل مرة يضرب المسحر طبله ثلاث مرات ، ثم ينشد قائلاً : "عز من يقول لا إله إلا الله" . ثم يضرب بالطريقة نفسها ويضيف قائلاً : "محمد الهادى رسول الله" ، ثم يعود إلى ضرب طبله ويواصل كلامه : "وأسعد لياليك ، يا فلان (مسمياً صاحب المنزل)". إذ أنه يستفهم من قبل عن أسماء سكان كل منزل ، فيحيى كلا منهم ، ما عدا النساء ، بالطريقة نفسها فيسمى أخوة سيد المنزل وأولاده وبناته الأكبر ، قائلاً فى الحالة الأخيرة ، "أسعد الليالى إلى ست العرايس فلانة" ، ويضرب طبله بعد كل تحية . وبعد أن يحيى الرجل (أو الرجال) يقول : "ليقبل الله منهم صلواته وصيامه وطيباته" ويختم بقوله : الله يحفظك ، يا كريم ، كل عام " . وهو ينشد ، أمام منازل العظماء (كما فى أحوال أخرى أحياناً) ، بعد أن يقول : (عز من يقول : لا إله إلا الله ، محمد الهادى رسول الله) أغنية طويلة فى سجع غير موزون ، يبدأ فيها باستغفار الله ، ويصلى على الرسول ، ثم يأخذ فى رواية قصة المعراج وغيرها من قصص المعجزات المماثلة ، ضارباً طبله بعد كل قافية . ولا يقف المسحر على منازل الحزانى. ولم يكن دور المسحراتى - فى الماضى - يقل عن دور المطربين شأناً ، فلم يكن يقدم على هذا العمل إلا من كان له صوت جميل وأداء رتيب . وكان المسحر ، ومازال ، صاحب فن خالص لا يقوى له ولا يدخل فيه إلا من له صوت حسن . وكان يصاحب المسحر غلام يحمل قنديلين فى إطار من الجريد ، وكثيراً ما كان يُصاحبه عازف أو زامر أو طبال ، وكانت وظيفة المسحر الأداء الغنائى فقط يعاونه فى ذلك فئة العازفين والزمارين والطبالين ، وقليلاً ما كان المسحر يقوم بالمهمتين معاً الغناء والعزف. المسحراتى و الإنشاد وعلى الرغم من تدهور عملية التسحير من الناحية الفنية ، إلا أن المعروف عن المسحر أو المسحراتى أنه منشد مُجد توارث تقاليد الإنشاد ، وحفظ نصوص أغانيه عمن سلف ، ويتضمن إنشاد المسحراتى مقاطع غنائية متبقية من القصص الغنائى القديم مثل "القط والفأر" ومثل "مأمونة" وغيرهما . كما يتضمن إنشاد المسحراتى منظومات التواشيح التى يؤديها فى الأيام العشرة الأخير من الشهر ، وإنشاد المسحراتى (وخاصة مقاطعه القصيرة المنظومة التى لا يزال يستخدمها لإيقاظ الناس) متميز فى طريقة الأداء التى ارتبطت فى الوقت نفسه بالتوقيع على طبل البازة بإيقاع متميز أيضاً يعرفه الناس ويستيقظون عليه . وقد كان للإنشاد الدينى القدر الوافر فى شهر رمضان ، حيث كان يؤدى فى مسيرة جماعات الطرق الصوفية وجماعات من أرباب الحرف المختلفة وذلك أثناء موكب الرؤية وينشدون مقاطع قصيرة تبدأ ب " لا إله إلا الله محمد رسول الله " على دقات الطبول والصاجات . وكان يتخلل إنشاد المسحر أغان طويلة فى المديح النبوى ، وأخيراً إنشاد التسابيح والابتهالات فى المنارات وقت السحر فى شهر رمضان ، كما كان ينشد ما يُعرف بالتذكير وهو نوع من الأشعار العامية ينشدها المؤذنون في المنارات لتذكرة الناس بوقت سحورهم ، ومنها التذكير الأول والتذكير الثانى والثالث ، ويأتى كل تذكير فى المعانى المناسبة لكل توقيت. أجرة المسحراتى وقد ارتبطت أجرة المسحراتى ببعض التغيرات على مر العقود ففى منتصف القرن التاسع عشر كانت الأجرة مرتبطة بالطبقة التى ينتمى إليها المتسحر ، فمنزل الشخص متوسط الطبقة على سبيل المثال عادة ما يعطى المسحر قرشين أو ثلاثة قروش أو أربعة فى العيد الصغير . ويعطيه البعض الآخر مبلغاً زهيداً كل ليلة . وكثيراً ما يعمد نساء الطبقة المتوسطة إلى وضع نقد صغير (خمسة فضة ، أو من خمسة فضة إلى قرش ، أو أكثر) فى ورقة ، ويقذفن بها من النافذة إلى المسحر، بعد أن يشعلن الورقة ليرى المسحر مكان سقوطها . فيقرأ الفاتحة بناء على طلبهن أحياناً، أو من تلقاء نفسه ، ويروى لهن قصة قصيرة ، فى سجع غير موزون ، ليسليهن ، مثل قصة "الضرتين" ، وهى مشاجرة امرأتين متزوجتين رجلاً واحداً . وقد كان المسحراتى لا يتوقف عادة عند منازل الأسر الفقيرة وفى الريف المصرى إبان القرن الماضى لم يكن للمسحراتى أجر معلوم أو ثابت ، غير أنه يأخذ ما يجود به الناس فى صباح يوم العيد ، وعادة ما كان الأجر يؤخذ بالحبوب، فيأخذ قدحاً أو نصف كيلة من الحبوب سواء ذرة أو قمح ، ولم يكن أجراً بالمعنى المفهوم ، ولكنه هبة كل يجود بها حسب قدرته . ورغم اختفاء الكثير من الفنون المرتبطة بالمسحراتى سواء فى القرية أو المدينة ، إلا أن وظيفته الأساسية لا زالت حتى الآن ، وهى الإمساك بالطبل أو الصفيحة ، والدق عليها بالعصا والنداء على كل باسمه داعياً إياه للاستيقاظ . ولا يزال المسحراتى يحتفظ بزيه التقليدى أثناء التسحير وهو الجلباب ، وقد يستخدم الدف بديلاً عن البازة.