القى معالي الدكتور غازي القصيبي محاضرة هامة في ملتقى المثقفين اثارت ترحيب وتصفيق الحضور وهذا نص المحاضرة اردت لهذا الحديث ان يكون حديث مكشافة ومصارحة وكان هذا قرارا عانيت معه، قبل ان اصل اليه، وللمعاناة سبب: لا توجد مكاشفة لا تحرج المكاشف او المكاشف، ولا توجد مصارحة لا تجرح المصارح او المصارح، في المكاشفة والمصارحة شيء من الألم، وهذا الألم في تصوري، هو الذي يبقى المكاشفة، وما يتفرع عنها من مفاهيم كالشفافية والمساءلة، احلام كثيرا ما تستعصي على التحقيق. اريد ان اصارحكم، باديء ذي بدء، اني اصبت بكثير من الخوف عندما قرأت اسم الموضوع الذي طلب مني ان اتحدث عنه:(التنمية الثقافية ودور المثقف فيها) والحق اقول لكم اني لا اعرف، على وجه التحديد، المقصود بالتنمية الثقافية، واوشك ان اقول اني لم اعد اعرف، على وجه التحديد، المقصود بالتنمية عموما واجمالا، على ان هذا الخطب يهون عند الخطب الآخر: دور المثقف، ينتابني كثير من الحيرة وشيء من القلق كلما دار الحديث عن (دور المثقف) في هذا الشأن او ذاك، اما الحيرة فمصدرها اني لا اعرف نموذجا واحدا لمثقف بمواصفات انسانية راقية، واهداف مجتمعيه عالية، ونزاهة شخصية ضافية بحيث يمكنني ان اقول (وجدته! هذا هو المثقف! وهذا هو دوره!) المثقفون الذين اعرفهم، والذين اعرف عنهم، ينتمون الى نماذج عديدة ، منها نموذج يسرك ان يكون له دور في شؤون مجتمعك، ومنها نموذج تود لو نفيته من مجتمعك نفيا، بين المثقفين تجد الصادق والكاذب، الجبان والشجاع، ذا المبدأ والانتهازي، الى نهاية القائمة من الصفات، وهي صفات نجدها بين كل اصناف البشر، بدءا بعباقرة التاريخ وانتهاء بالأميين واشباه الاميين. اي دور نستطيع ان نتوقعه من قبيلة المثقفين المليئة بالتناقضات؟ وهل يستقيم الحديث عن دور واحد للمثقف اذا كنا ازاء مثقفين: احدهما همه دفع مجتمعه الى الامام والآخر هاجسه جر مجتمعه الى الوراء؟ هذا عن الحيرة، اما القلق فيجيء عندما ننتقل من التأمل النظري الى جولة سريعة في التاريخ، سوف نجد، بلا جهد، في كل منعطف وكل زاوية، مثقفا نتمنى لو لم نتلق به، ولو لم يلتق هو بالتاريخ، ولنا ان نستذكر ان الحجاج بين يوسف كان مثقفا بامتياز، يعلم القرآن الكريم، ويعشق الشعر، ولم يكن يلحن في جد او هزل، ولنا ان نلحظ ان مثقفا كبيرا من مثقفي زمانه اصطنع فرنا يضع فيه اعداءه شاءت عدالة السماء ان يموت فيه، وفي ايامنا هذه قال شاعر عراقي موهوب جدا في طاغية العراق شعرا يتفوق في قبحه وبذاءته على الشعر القبيح البذيء الذي يبدأ: ما شئت لا ماشاءت الأقدار... فاحكم فأنت الواحد القهار ولست بحاجة الى ان يذكرني احد بمثقف استشهادي فضل الموت على تغيير موقفه، ومثقف شجاع فشلت كل الضغوط في تدجينه، ومثقف نبيل لم تفسده السلطة في المحصلة النهائية، وامام النماذج المتغايرة للمثقفين، اجد من العسير علي ان اتحدث عن دور للمثقف، دور لا يتغير ولا يتبدل، دور معني بهموم القاعدة العريضة من الناس، دور مسكون بقيم الحق والخير والعدالة. واستئذنكم قبل ان اغادر مضارب هذه القبيلة ان اشير الى رأي مثقف مشهور في زملائه من المثقفين، هو المفكر الامريكي اريك هوفر، وهو بالمناسبة مثقف عصامي لم يحمل شهادة من اي نوع يقول: (هناك نهم مترسخ عند كل اصحاب الكلمة تقريبا يحدد نظراتهم الى اي نظام قائم - ذلك هو نهمهم الى الاعتراف بهم والى اعطائهم مكانة متميزة تختلف عن مكانة سائر البشر) ويضيف: (رغم مايزعمه المثقف المحتج باستمرار من انه بطل المسحوقين والضعفاء فان الظلامات التي تحركه وتحفزه، هي باستثناءات بسيطة، ظلامات فردية وشخصية) لسنا بحاجة الى تصديق ما يقوله هوفر الذي قال لنا في مقدمة كتابه الذي نقلت عنه هذه العبارات انه يتحدث بمنتهى الجرأة لأنه يعرف انه لا يوجد التزام عند احد بتصديق ما يقول. اذن تعذرونني، مشكورين، إذا سمحت لنفسي بتغيير العنوان الذي ارعبني الى عنوان آخر، قد يبدو غامضا في البداية، هو (ثقافة الثقافة) ولإزالة الغموض اقول: نحن نتحدث عن (ثقافة السلام) التعبير الذي شاع وذاع بفضل مدير اليونسكو السابق، ونتحدث عن (ثقافة الحوار) وهو تعبير يشيع ويذيع في مجتمعنا السعودي هذه الايام بعد المبادرة التاريخية التي اطلقها سمو ولي العهد باطلاق مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، لا ضير، اذن، من ثقافة جديدة نسميها، دون رغبة في التلاعب بالالفاظ، (ثقافة الثقافة) ونعني بها تلك الروح التي تصادق الثقافة وتشجعها وتعينها. كيف نوجد ثقافة الثقافة؟ ما أسهل طرح الاسئلة وما اصعب الاجابة عنها وتزداد الصعوبة عندما يكون من يحاول ان يجيب بطبعه، يرى الظلال الشاحبة كما يرى الألوان الفاقعة، ويدرك خطر التعميمات، ويعرف انه يندر ان يكون للحقيقة وجه واحد، ويوقن ان الفكرة الواحدة عندما تدخل الف رأس قد تدخله بألف رداء، بهذا التحفظ يمكنني ان اوضح المقصود بثقافة الثقافة، الا ان هناك وقفة ضرورية قبل الاستطراد. لعلكم لاحظتم اني حاولت، حتى الآن، ان اتملص من الوقوع في مزلق رهيب، وهو تعريف الثقافة الا انه لابد مما ليس منه بد، الثقافة وما يعادلها في الانجليزية CULTURE مفهوم حمال أوجه، وقد اورد عالم غربي من علماء الأنثروبولوجيا عشرات التعريفات للمفهوم، سأغامر، والحالة هذه بتعريف صفته ولم ابتكر مضمونه:(الثقافة هي تلك الإبداعات الانسانية، التي تتجاوز مناهج التعليم الرسمية، والتي تغني فكر الانسان بالتسامح، وتضاعف اهتماماته العقلية، وتطور حسه الجمالي، هذا تعريف تحكمي بعض الشيء، وكل التعريفات التي اعرفها تحكمية بعض الشيء، ولعلكم تلحظون ان هذا التعريف يخرج من حرم الثقافة اناسا يعدون انفسهم صفوة المثقفين، ويدخل في حرم الثقافة بعض البسطاء الذين لم يتهمهم احد بالثقافة، وهكذا تفعل التعريفات. نقارب فكرة (ثقافة الثقافة) عندما نتصور مجتمعين، خياليين او حقيقيين، احدهما يعادي الثقافة، والثاني يصادقها في المجتمع الاول يلحظ المرء اول ما يلحظ رقابة صارمة قاتمة واجمة تحاول شق الادمغة عن الافكار والصدور عن الاحاسيس، هذه الرقابة تستمد شرعيتها من ادعائها انها الحصن الحصين في وجه الانحرافات الفكرية او النزاعات الانحلالية او الهجمات الاستعمارية، او هذه الامور مجتمعة هذا ما تدعيه، اما في حقيقة الامر فهي تستمد شرعيتها من تفوق فكري وعقائدي واخلاقي مزعوم وهمي يحسب انه يعرف اكثر من القارىء ما يصلح للقارىء، ويعرف اكثر من الأب ما يجوز لابنه ان يقرأه، ويعرف اكثر من المجتمع كله ما ينفع او يضر المجتمع كله، هذه الرقابة المتضخمة بنرجسيتها تحجب دون تردد، ديوان شعر لأنه يحتوي على كلمة مثل (قبلة) أو (ضمة) او كلمة اخرى من عشرات الكلمات التي لم يخل منها ديوان شعر عربي واحد، وتجيز كتابا يضم نخبة من شعراء الوطن وكتابه بالردة بناء على تأويلات مريضة، أمية في احسن الاحتمالات، ومغرضة في اسوأها، ولا يحتاج احد الى قليل او كثير من ذكاء، ليستنتج ان الفكر الذي ينمو في ظل رقابة كهذه سوف يكون في مجمله، من قبيل المنشورات الايدولوجية الساذجة، او الاعلانات التجارية، الاكثر سذاجة في هذا المجتمع الذي تغيب عنه ثقافة الثقافة تنمو ثقافات اخرى كالنباتات الشيطانية (ثقافة الانغلاق) حيث لا قول الا ما قالت حذام (وثقافة استعلاء) حيث يشرب غيرنا كدرا وطنيا (وثقافة الكراهية) حيث: الله يعلم أنا لا نحبكم... ولا نلومكم إن لم تحبونا والمجتمع عدو الثقافة، بخلاف ما قد يبدو لأول وهلة، لا يؤمن بفكر بعينه، ولا يتبنى نظاما سياسيا بذاته بوسع هذا المجتمع ان يكون ثيوقراطيا او علمانيا، يمينيا او يساريا، ويبقى مجتمعا معاديا للثقافة، ان نظام طالبان لا يكاد يجمعه شيء بنظام صدام حسين، ومع ذلك فالنظامان ينتميان بجدارة الى قائمة اعداء الثقافة. اما في المجتمع الآخر، حيث تنتشر ثقافة الثقافة، فنجد الصورة مختلفة، في مجملها وتفاصيلها، عن صورة المجتمع الاول، تقتصر الرقابة على حماية الثوابت التي لا يختلف عليها، وتمارس في حدودها الدنيا. يأخذ الفكر الف طيف وطيف, لاينكر طيف على بقية الاطياف حقه في البقاء, يتعامل المجتمع, بلا مركب نقص او جنون عظمة, مع ثقافة الاخرين, ياخذ بسخاء ويعطي بسخاء, يقبل بمودة ويمنح بمودة, ينتقي بثقة ويرفض بثقة. لابد لي ان اقول, والالم يعتصرني, ان معظم مجتمعاتنا العربية والاسلامية, تتدرج بدرجات متفاوتة في ظل النموذج الاول, قامع الثقافة. ولعله من المضحك المبكي, ان نتذكر ان هذه المجتمعات تنتمي, بصلة النسب البعيد, الى حضارة كانت, في اوج ازدهارها, المثل العالمي المشرق لثقافة الثقافة. لنتأمل بغداد في عصرها الذهبي, ولنقارن بين ما كان يحدث هناك - وما يحدث, الان, في عالمنا العربي الاسلامي المعاصر. في بغداد القديمة, كان ابو العتاهية يعيش بقرب ابو نواس دون ان يطالب احدهما بسفك دم الاخر. وفي بغداد القديمة عاش شاعر عظيم تخصص في هجاء الدولة, وظل, كما كان يقول, يحمل كفنه اربعين سنة دون ان يجد من يكفنه فيه وفي بغداد القديمة, كان فكر المعتزلة يحاور فكر اهل السنة والجماعة في جدلية صحية سلمية قبل ان تدخل السياسة ميدان الفكر فتسمم كل شيء وفي بغداد القديمة كان طبيب امير المؤمنين نصرانيا, وكانت كتب الحكمة يونانية, وكانت اعظم العقول من فارس وبخاري, ولم يكن اليهود يعيشون في جيتو مغلق عليهم يتهددهم فيه, بين الحين والحين, خطر الابادة العنصرية. لا اود ان اضفي على الماضي من البريق ما لم يكن فيه, وهي عادة متأصلة في الكهول والشيوخ, ولا اود ان انفي وجوه القصور عن الماضي, وهي عادة راسخة في اليائسين من الحاضر. كل ما اود فعله هو ان ازعم ان اي مقارنة بين بغداد القديمة واي حاضرة عربية او اسلامية معاصرة لن تكون في صالح الحاضرة المعاصرة, فيما يخص ثقافة الثقافة, على اية حال. وقبل ان اترك العصور القديمة المزدهرة اذكر اني قرأت في كتاب لم اعد للاسف اذكر اسمه ان الاندلس العربية كانت تضم ذات يوم, ستين الف شاعرة. اذا قلصنا هذا العدد وشذبناه وهذبناه وازلنا عنه المبالغة التي ظلت لصيقة بالعرب في ازدهارهم وانحدارهم, سوف يخلص لنا عدد كبير لا اعتقد اننا سنجد عددا قريبا منه في امة يتجاوز عددها الف مليون انسان وانسانة. يبادرني السؤال, الان, قبل ان اواجهه: كيف الوصول الى مجتمع يحتفي بثقافة الثقافة؟ سبق ان قلت, ولا امل التكرار, اني على طرح الاسئلة اقدر مني على تقديم الاجوبة. واضيف ان الاجوبة التي تطرح حلولا سهلة نظريا مقبولة منطقيا تجيء بحلول تتطاير مع اول هبة هواء ساخن من عالم الواقع من الحلول السهلة الشائعة تحميل الدولة المسؤولية عن كل شيء بما في ذلك الثقافة.وهذا لا يعني اني اعتقد ان وجود هذه المؤسسة, في حد ذاته, ظاهرة سلبية بقدر ما يعني اني اعرف الحدود التي لايمكن لمؤسسة حكومية, حتى لو كانت مسؤولة عن الثقافة, تجاوزها. لقد قامت الاجهزة المعنية بالثقافة في عالمنا العربي بجهود لا تنكر ولكنها قامت في الوقت نفسه, وفي الدول الانقلابية على وجه الخصوص, بتكريس فكر الشخص, وفكر الدولة, حتى اصبحت منجزاتها الاخرى بمثابة سكر حلو براق يخفي تحته كعكة مرة المذاق محشوة بالسموم القاتلة وهذا الانحراف, بالمناسبة, سلمنا منه الى حد كبير في بلادنا هذه في الماضي, ونرجو ان نسلم منه في المستقبل. ومن هنا, فانني اتردد الف مرة قبل ان اجعل الثقافة مسؤولية جهاز يتصرف المالك في ملكه, جهاز يتعامل مع الثقافة كما تتعامل وزارة النقل مع السكك الحديدية, ووزارة الكهرباء مع محطات التوليد, اوشك ان اقول, ولا اود ان اقول, ان اي جهاز حكومي مسؤول عن الثقافة يؤدي واجبه كاملا غير منقوص, ويستحق شكر اليوم والغد, اذا هو نجح في فتح الافاق امام الثقافة ولم يتحول الى عقبة كؤود تنتصب في الطريق وتسد الآفاق. لا اود ان يفهم احد اني اعارض ان يقوم الجهاز المسؤول عن الثقافة ببناء المسارح ودور السينما والمكتبات ونشر الكتب كل ما اريده هو الا تكون المسارح مجالا لعرض تمثيليات من تأليف الدولة واخراجها وانتاجها, والا تكون دور السينما مخصصة لافلام يلعب فيها السيد القائد كل الادوار والا يكون في المكتبة مئة الف كتاب هي في حقيقتها مستنسخة جزئيا او كليا, من ثلاثة كتب او اربعة, ولا اريد للكتب التي تنشر ان تحمل عناوين مثل, اخرج منها يا ملعون, او, ان لم تخن الذاكرة, القرية القرية الارض الارض انتحار رائد الفضاء. اني لا امقت كتبا بقدر ما امقت الكتب التي تجيء بلون معين وككتيب ماوتسي تونج الاحمر الذي يحمل وصفة لقتل الثقافة باسم الثورة الثقافية, وكتاب العقيد الاخضر الذي يحتوي على شطحاته الغرائبية الاسراطينية, والكتب البيضاء التي تصدرها الدول عندما تريد ان تغلف مجموعة من الاكاذيب البشعة بلون يسر الناظرين. انني اعتقد ان ايجاد ثقافة هي مسؤولية المجتمع كله, واسارع فأقول اني لا اعرف كيف يمكن لمجتمع شاء حظه العاثر ان يحرمه ثقافة الثقافة ان يصل اليها. اعرف طائفة من الحلول السهلة نظريا المقبولة منطقيا ولا ارى ضيرا في استعراضها معكم. في البيت تبذر البذرة الاولى لثقافة الثقافة. حين يكف الاولاد عن النظر الى الابوين باعتبارهما كائنين آليين مبرمجين على رفع سوط العقاب, او فتح كيس الثواب. وحين ينظرون الى الابوين بصفتهما انسانين بعيدين عن الكمال لايميزهما عن غيرهما سوى حب الاولاد, ولايميز هذا الحب عن غيره من ضروب الحب, سوى انه لايمارس الاحتكار ولا يعيق نمو من يحب. وسينبري لي من يقول كيف نصل الى هذه النتيجة اذا كان الابوان يتصرفان بالفعل وكأنهما مبرمجان على رفع سوط العقاب او فتح كيس الثواب؟ اطرق عاجزا, ويتطاير هذا الحل ذرات هباء. وبعد البيت يجيء دور المدرسة. تمتد جذور ثقافة الثقافة حين يكف المعلم عن اعتبار طلابه اوعية فارغة يصب فيها المناهج الظاهرة والخفية, ومنهجه الظاهر والخفي, وينظر الى طلابه باعتبارهم قادرين, رغم صغر سنهم, على حرية الاختيار وحين يؤمن ان دوره الاساسي هو تدريبهم على حرية الاختيار. سيقول لي من يقول, وكيف تتوقع من معلم وقع هو نفسه في قبضة فكر لايعرف التسامح ان يعلم طلبته مبادئ التسامح, ويهوي الحل السهل الثاني منهارا على قواعده. وبعد البيت والمدرسة يجيء دور المجتمع باكمله. المجتمع الذي يقمع الخارجين على كل صغيرة وكبيرة من توجيهات ذلك الكائن الهلامي المخيف العجيب الذي نسميه, التقاليد والعادات, وقد نضيف اليه الخصوصية, لا يمكن ان يسمح بنشوء ثقافة الثقافة. واكاد اسمع من يردد: وكيف تطلب هذا من مجتمع تعلم من البيوت والمنابر والمدارس, ان الخطوط الحمراء تكاد تملأ صفحة الفكر كلها على نحو لايترك للمباح والجائز سوى هامش يصغر كل يوم ويذهب الحل السهل الثالث من النافذة. اتراني اود ان اسحبكم معي الى دوامة من اليأس العدمي الاسود؟ اتراني اود ان اقنعكم ان الوصول الى ثقافة الثقافة في مجتمعاتنا العربية والاسلامية مستحيل ينعم برفقة الغول والعنقاء والخل الوفي لا! ما اريد ان اقوله لكم هو اني, بعد تأمل طويل في شؤون الثقافة احسبه استغرق معظم سنين عمري, وبعد تأمل قصير خلال الايام المحدودة التي تطلبها اعداد هذا الحديث, وصلت الى اقتناع راسخ وهو ان الطريق الوحيد الى ثقافة الثقافة يمر عبر بوابة اسمها الحرية. مع كل خط اجتماعي متعسف احمر يختفي, تنمو زهرة جديدة من زهور ثقافة الثقافة. مع كل رقيب سلطوي يتقاعد غير مبكي عليه وبقاء الرقيب في حقبة الانترنت والعولمة نادرة تضحك الثكلى, يمتد جذر جديد من جذور ثقافة الثقافة. مع كل هامش يتسع للتعبير, تنمو شجرة جديدة من اشجار ثقافة الثقافة. اسمحوا لي, اذن, ان انهي حديثي اليكم بحلم اود ان تشاركوني فيه: لنحلم معا بمجتمعات تؤمن بثقافة الحرية التي تقود, بحتمية لا مناص منها, الى ثقافة الثقافة. تحدثت قبل قليل, عن ثقافة الثقافة في اوج الحضارة الاسلامية العربية, واقول هنا اني لا اتوقع, ولم اتوقع قط, لنفسي او لزملائي بهذه الحرفة الكئيبة, مع الاعتذار للاقتصاديين, هامشا للحرية يتجاوز ذلك الهامش الذي اعطته الحضارة الاسلامية المزدهرة لمثقفيها, والذي انتج لنا ضمن ما انتج روائع الجاحظ وابو الفرج الاصفهاني وابن حزم وابن القيم وابن الجوزي وجلال السيوطي, بالاضافة الى نخبة من شعراء فقهاء مبدعين, جمعت من اشعارهم مجموعة صغيرة لا يزال الرقيب يتسلى بقراءتها - ولايفسح لها الطريق. وعلى ذكر جلال الدين السيوطي احب ان اورد لكم حكاية لاتكاد تصدق قام اكاديمي مغمور بتحقيق كتاب نزهة الجلساء في اشعار النساء - وسمح لنفسه بحذف ابيات وكلمات من ابيات من شعر نسوي رقيق وقال انه فعل ما فعل رعاية للخط الذي نسير عليه ونرعى الله فيه. ان شأن هذا الرقيب الصغير لا يختلف عن شأن مدرس طبيعة في مدرسة ثانوية يعطي نفسه حق الاعتراض على انيشتاين - والا فكيف يسمح احد لنفسه ان يزايد في الشريعة على عالم من ابرز علماء الشريعة تجاوز عدد مؤلفاته سبعمائة مؤلف؟ اروي هذه الحكاية لاقول لكم اني في كل ما ذكرته عن الرقابة لا اقصد الرقابة التابعة لزميلي العزيز وصديقي القديم معالي الدكتور فؤاد الفارسي وهو بالمناسبة من اوسع من عرفت صدرا واكثرهم تسامحا - ولكني اقصد كل رقيب, والرقيب في نظري هو كل من يسمح لنفسه بالتفكير نيابة عن الاخرين - سواء كان في موقع رسمي او غير رسمي - وانتم تعرفون, بعد, ان الرقابة غير الرسمية كثيرا ما تكون اشرس واقسى واعنف من الرقابة الرسمية, ذريعتها في ذلك طابعها التطوعي والفضولي هي الكلمة الادق. ان البلابل لاتغرد وهي سجينة الاقفاص, والمياه لاتعرف سيمفونية الخرير وهي حبيسة في الخزانات (او قوارير المياه الصحية), والاغصان لاتشنف الاذان بالحفيف وهي مشدودة الى الجذوع. هل نستكثر, اذن, على مبدعي الثقافة حقوقا اقتضت سنن الخالق العظيم, في خليقته, ان تتمتع بها الحيوانات والجمادات؟