الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فإن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، وذلك من أبرز خصائصه وخصائص أهل الإسلام الذين استجابوا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة : 143) ويقول الله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران : 110) . والوسطية والاعتدال هي التمسك بدين الله عز وجل وحبله المتين باتباع أوامره واجتناب نواهيه مما جاء الأمر بها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والعبادات والمعاملات والمناكح والقضاء وسائر التعاملات والعلاقات والأنشطة البشرية، إذ أحكام الشريعة شاملة لجميع نشاط الإنسان، (فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفراداً وتركيباً) (الموافقات 1/ 78) واتباع أحكام الشريعة وتطبيق المسلمين لها واجب عليهم لا خيار لهم في التخلف عنها يقول الله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام: 153) ويقول الله تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (آل عمران: 31) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه . وجاء التحذير من مخالفة أمر الله عز وجل في كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (النور: 63) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) (أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) ويقول صلى الله عليه وسلم ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: من يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (أخرجه البخاري) . لقد اخطأ أقوام من الناس عن منهج الوسطية والاعتدال والمخطئون في ذلك فريقان: الفريق الأول: الفريق الجافي، وهو الذي قصر عن القيام بأحكام الإسلام وآدابه، فلم يعمل بها، أو صدر منه ما يدل على عدم الأخذ بها أو ببعضها، وهذا شأن بعض الناس منهم مستغربون في عالمنا الإسلامي سموا أنفسهم المستنيرين ينادون بعدم تطبيق الشريعة أو إلى اختلاط المرأة بالرجال الأجانب في الدراسة والأعمال أو نبذها للحجاب والجلباب، ويطعنون في الدين وأئمة الهدى الذين حملوا لواءه أو غير ذلك من الأعمال المخالفة لهدي الإسلام،و تعاليمه، وهو جفاء من الخطورة بمكان، وعملهم هذا هدم وتخريب وتغريب للمجتمع المسلم. أما الفريق الثاني: فهم الفريق الغالي الذي يجاوز الحد المقرر في الشرع وفق أدلته الشرعية من الكتاب والسنة، كالغلو في الأئمة وادعاء العصمة لهم، أو تكفير المعين من المسلمين من غير محاكمة أو إطلاق الكفر على مجتمعات المسلمين واستحلال دماء المستأمنين ورجال الأمن الساعين إلى ضبط المجرمين المخربين. على أنه يجب على المسلمين الالتزام بالحقيقة الثابتة وهي الوسطية والاعتدال دون جفاء أو غلو، دون تفريط وتقصير، أو غلو ومجاوزة للحد، فكلا الطرفين ذميم. والتمسك بجادة الحق من الوسطية والاعتدال هو منهج الصحابة الكرام الذين قصر قوم دونهم فجفوا، أو طمع عنهم أقوام فغلوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم ( من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر سنن أبي داود رقم 4612) ويقول ابن القيم- رحمه الله- : ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: أما إلى تفريط وإضاعة، وأما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه.. فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد ( مدارج السالكين2/ 496) ان الناس عند اجتماعهم يحتاجون إلى ولاية تحرس دينهم وتسوس دنياهم، فتدفع عن الدين انتحال المبطلين وجفاءهم، وغلو الغالين وتجاوزهم وترعى مصالح العباد فتلبي مطالبهم وتدفع ظالمهم. يقول الأفوه الأودي: ==1== لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم==0== ==0==ولا سراة إذا جهالهم سادوا ==2== ويقول آخر:==1== لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل ==0== ==0==وكان أضعفنا نهباً لأقوانا كم يرفع الله بالسلطان مظلمة ==0== ==0==في ديننا رحمة منه ودنيانا ==2== ( الأستذكار 27/ 359) ولذا جاء الشرع بوجوب نصب الولاة والسمع والطاعة لهم فيما يأمرون به بالمعروف يقول الله تعالى- (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 59) وطاعة ولاة الأمر جاء الأمر بها في حدود ما أمر الله عز وجل به، فلا طاعة لهم في معصية الله عز وجل يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف ( متفق عليه فقد أخرجه البخاري واللفظ له كتاب التمني باب ما يجوز من الله وقوله تعالى: ( لو أن لي بكم قوة) وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية) يقول ابن تيمية (ت: 728ه): ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسول صلى الله عليه وسلم ( مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه 11/ 465). أن من مهام ولي الأمر في الإسلام حراسة الدين، وسياسة الدنيا: أما حراسة الدين فإن القيام بالدين يقتضي التسليم بكل ما جاء في الكتاب والسنة بأن يعيش المسلمون أفراداً وأمة ودولة خاضعين منقادين لأمر الدين مستقيمين عليه: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) ( الأنعام: 153). والناس بحاجة إلى إقامة هدى الدين والتمسك به والسير على أحكامه، يقول ابن القيم (ت: 751ه) حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، الا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ( مفتاح دار السعادة 2/2)، وعقل الإنسان لا يستقل بإدراك المصالح، والتشريع قائم على حفظ المصالح المتعلقة بالدين والنفس والعقل والمال والنسب والعرض، يقول الله تعالى: يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( الملك: 14) والدين عصبة الأمة الذي عليه اجتماع كلمتها في الدنيا وسعادتها في الآخرة، ولذا وجب حمايته وحماية أحكامه من عبث المنتحلين وانتحال المبطلين وجفاء الجافين وغلو الغالين، وذلك من واجبات ولي الأمر، وذلك متحقق بما يلي: 1 نشر أحكامه، وذلك ببث العلم الشرعي عبر المؤسسات المتخصصة ووسائل التثقيف، حتى يقيم الناس أمور عقيدتهم وعباداتهم ومعاملاتهم وكافة أنشطتهم على هدي الكتاب والسنة ودعوة غير المسلمين إليه. 2 إقامة الجهاد، لحماية الدين والأنفس والأوطان والأموال والأعراض، يقول الله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( البقرة: 216). 3 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسمى: الحسبة وهو مشروع يقول الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( آل عمران:110). والحسبة أمر بالمعروف إذا ظهر تركه, ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله, وهو عمل رقابي ووقائي من أعمال الضبط الإداري والقضائي, فيحمل الناس في المجتمع المسلم على حسن قيامهم بشريعة الله في جميع مناحي أعمالهم من عبادات ومعاملات وأخلاق وآداب اجتماعية, كما يقوم بدور الضبط القضائي بالرفع عن المخالفات لجهات التحقيق, للتحقيق مع المخالفين ومحاكمتهم ,ولا يصح بحال لولي الأمر في المجتمع المسلم السكوت عن المنكرات وإقرارها. 4 القضاء: وذلك بنصب القضاة للتقاضي لديهم في الحقوق الخاصة والعامة, ومعاقبتهم على المخالفات والجرائم التي يرتكبونها بالحد والتعزير حسبما يتقرر شرعا. واما سياسة الدنيا فان هذا الواجب يقتضي السعي للمسلمين بكل ما يصلح دنياهم وأمور معاشهم, ومن ذلك المحافظة على الأمن بأمن الناس في دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم, وهي ضرورات جاء الشرع بالمحافظة عليها , فأمن الأفراد وحسن تعايشهم في الدولة وشعورهم بالطمأنينة على هذه الضرورات بحفظها ورعايتها أمر مطلوب شرعا, وقد امتن الله على الناس بالأمن وبين نفعه للحاضر والباد, وقد دعا إبراهيم عليه السلام ربه ببسط الأمن في مكة فقال:( رب اجعل هذا البلد آمنا) ( البقرة: 126) وامتن الله على أهل البلد الحرام بالأمن فقال: ( أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى اليه ثمرات كل شيء) (القصص : 57) كما امتن على قريش بالأمن فقال : ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وامنهم من خوف) قريش : 3 4 وجاءت السنة شاهدة على أهمية الأمن وانه من نعم الله على عباده, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من اصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا) أخرجه الترمذي وابن ماجه , وقال الترمذي (حديث حسن غريب) والأمن مسؤولية المسلمين جميعا,وقد يشارك فيه المسلم بعمل صالح او دعوة صادقة. وتمكين الأمن يتم بالتمسك بدين الله عز وجل يقول الله تعالى : (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم آمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)( النور: 55) أن الإفساد في الأرض بسفك الدماء المعصومة والأموال المحترمة في المجتمع المسلم لهو من اعظم الجرائم, وما حدث في الرياض قريبا وقبله من تفجيرات كل ذلك من الإجرام والاعتداء على الأنفس المسلمة والمستأمنة بالقتل, وعلى الأموال المعصومة بالإتلاف, ولا يقر هذا العمل دين ولا عقل سليم, وقد توعد الله عز وجل من قتل المسلم عمدا بقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما) (النساء: 93) ويقول الله تعالى : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) (الإسراء: 33) ويقول : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) (المائدة: 32). وكذا من قتل مستأمنا دخل ديار الإسلام بأمان من المسلمين أو ولي أمرهم فقد أتى امرا منكرا وجريمة عظيمة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وان ريحها من مسيرة أربعين عاما) (أخرجه البخاري) ويقول : ( الا من ظلم معاهدا أو انتقصه او كلفه فوق طاقته أو اخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا خصمه يوم القيامة) (أخرجه ابو داوود وسكت عنه, وقال السخاوي في المقاصد الحسنة: 392 وسنده لا بأس به). قال ابن حجر في فتح الباري عن المعاهد (12/259) والمراد به: (من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم) ويجب أن ينال المجرمون الذين نفذوا القتل والتدمير والتفجير عقابهم المشروع الذي يكف شرهم عن بلاد المسلمين ومن سلك مسلك الجفاء والتغريب بالدعوة لأمر مشين يحرمه الدين أو الغلو والتكفير فعلى المسلمين مجادلته بالتي هي احسن, فقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على ذي الخويصرة بقوله: ( ويحك، من يعدل إذا لم اعدل؟!)(أخرجه البخاري), وكذا حاور علي ابن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج وحاورهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه ورجع منهم خلق كثير. على أنه يجب على الأمة المسلمة أن تستفيد مما يقع عليها من محن ومصائب فتراجع نفسها وتصحح مسارها وما وقعت فيه من خطأ وخلل، وقد قال الله عز وجل في شأن المسلمين عقب هزيمتهم في غزوة أحد: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) (آل عمران: 165) أسأل الله تعالى أن يقينا المصائب والشرور والفتن وأن يعصمنا من الخطأ والزلل.