كان عالم الاقتصاد الإيطالي الشهير ( فلفريدو باريتو ) في عام 1897م يدرس توزيع الإنتاج والثروات داخل المجتمع فوجد أن حوالي 20 % من المصانع تنتج 80 % من إجمالي الإنتاج كما أن 20 % من الأثرياء يحصلون على 80 % من ثروة المجتمع ؟ . وقد كانت دهشة ( باريتو ) عظيمة عندما توصل إلى نتائج متشابهة عند دراسته مجتمعات أخرى !. قام الرجل بعد ذلك بدراسة ظواهر أخرى غير الإنتاج والتوزيع، فوجد أن أرقام ( 20/80 ) تفرض وجودها وتتكرر في مناح مختلفة في الحياة، فأصبح ذلك الاكتشاف ينسب إليه عبر عدة مسميات ( منحنى باريتو ) (قانون الكثرة التافهة والقلة الهامة ) (قاعدة الثمانين والعشرين ) ... الخ . في الحياة العملية : بذكاء متميز قام ( ريتشارد كوخ ) بتحريك قاعدة عالم الاقتصاد ( باريتو ) في مجالات مختلفة في الحياة، وذلك عبر كتابه ( قاعدة 20/80 ) حيث بدأ بالعمل فالإنسان داخل شركته يمكنه ملاحظة أن 80 % من الأرباح تأتي من 20 % من المنتجات، وأن 80 % من الإيرادات تأتي من 20 % من العملاء كما أن 20 % من الموظفين يؤدون 80 % من العمل. على صعيد المجتمع 20 % من المجرمين يرتكبون 80 % من الجرائم، وأن 80 % من حالات الطلاق تصدر عن 20 % من الرجال بمعنى أن هناك رجالا يطلقون أكثر من ( 5 ) مرات في حياتهم أو ربما أكثر ، أما السيدات في المنزل تستخدم 20 % من الملابس المتراكمة في الدولاب بينما هناك80%0 من الملابس للفرجة والتكديس، كما تستخدم السيدات 20 % من الأواني والأجهزة في المنزل وتظل 80 % للديكور الاجتماعي اي معطلة طوال العام، وفي المكتب يتم استخدام 20 % من الأوراق والملفات ويظل 80 % متراكماً على الطاولة بلا قرار. الصفوة المنتجة : نرغب في هذه السطور أن نشير أو أن نقترب تدريجياً من إشكالية ( الكثرة ) خصوصاً وأن القرآن الكريم والأحاديث النبوية قد أشارت إلى الظاهرة ( الغثائية ) التي هيئنا لها ببعض الدراسات المعاصرة . وتواصلاً مع عنوان الموضوع طالعنا أيضاً ما أشار إليه ( سايمنتن simanton ) في كتابه ( العبقرية والإبداع والقيادة ) حول الدراسة التي تمت على مائتين من المبدعين قاموا بعدد من الأعمال، وتم اختيارهم بشكل عشوائي من كل مجال، وكانت الدراسة تخص توزيع الإنتاجية في سبعة مجالات هي: علم الشيخوخة علم الجيولوجيا وشلل الأطفال والموسيقى الأمريكية وعلماء الكيمياء والكتب الموجودة في مكتبة الكونجرس والبحوث في ميدان علم اللغة. كشفت الدراسة فيما يتعلق بالمجالات الستة ( غير الموسيقى )حيث كان التفاوت في الإنتاجية بارزاً فعلى الصعيد المعرفي وبالتحديد في مجال علم اللغة كان أغزر 10 % من الباحثين في انتاجهم مسئولين عن 34 % من كل البحوث المنشورة، وكان الباحث الذي يقف على قمة هؤلاء الباحثين مسئولاً بمفرده عن 5 % من العدد الكلي للبحوث، وقدم 71 % من المساهمين اسهاماً واحداً فقط لكل منهم، وساهم 10 % من العاملين المبدعين عبر كل المجالات السبعة بحوالي 5 % تقريباً من كل الأعمال المنتجة، وكان أغزر المبدعين أنتاجاً مسئولاً وحده عن 9 % من الأعمال المنتجة في كل المجالات، أما على صعيد الموسيقى فتشير الدراسة إلى أن 64 % من مجمل الأعمال قد أنتجها 10 % ممن كانوا أكثر إنتاجية . كما أظهرت دراسة قام بها ( دينس ) أنه قد نشر 10 % من علماء النفس ما بين 40 % من كل البحوث النفسية المنشورة، بينما ساهم 50 % من الأقل إنتاجاً ب 15 % أو أقل من الأبحاث المنشورة، وهكذا فان 10 % من الصفوة المنتجة قد أنتجت ما هو أكثر من مثلي ما أنتجه 50 % من مجموعة علماء النفس الأقل إبداعاً أو ثلاثة أمثاله واذا سمحنا لانفسنا بتطبيق تلك القاعدة على مجتمعاتنا نقول :انه لاتزال هناك صفوة خيرة تقود الانشطة الاجتماعية والتطوعية والخيرية في المجتمع نيابة عن( الاكثرية)وكأن الرجل منهم بألف فارس، وإن ابراهيم كان امة قانتا لله ولم يكن من المشركين. الظاهرة الغثائية : يعرف العلامة ( ابن منظور) في موسوعته الرائعة ( لسان العرب ) الغثاء ما يحمله السيل من القمش وهو أيضاً الزبد والقذر، والغثاء هو الهالك البالي من ورق الشجر الذي إذا خرج رأيته مخالطاً زبده، وفي حديث الحسن: هذا الغثاء الذي كنا نحدث عنه يريد أراذل الناس وسقطهم . وفي الحديث عن الرسول الأكرم ( ) إنه قال: { يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها} قيل يا رسول الله فمن قلة نحن يومئذ ؟ قال: { لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن } فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: { حب الدنيا وكراهية الموت } . إذاً الغثاء لا وزن ولا قيمة له رغم كثرته مما يجعله يطفو على السطح فكذلك الشأن بالنسبة للأمم والشعوب لا قيمة لعددها وكثرتها إذا كانت على هامش الفعل الحضاري ؟ وإذا كان الغثاء ليس له اتجاه معين وإنما تتقاذفه الأمواج في كل اتجاه، فكذلك الأمة تصبح مسيرة تتقاذفها التيارات المتصارعة ؟، الغثاء يتميز أيضاً بأنه يجمع بين أنواع غير متجانسة ولا متحدة من أوراق وأعواد وحطام فكذلك الشأن بالنسبة للأمة التي تقحم اهلها وناسها في اعتراك جانبي وتكون غير متجانسة وموزعة أشتاتاً . القرآن الكريم قبل ذلك كله أشار إلى ( الكثرة والقلة ) حين قال سبحانه وتعالى { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } وقال سبحانه وتعالى { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقال عز وجل على لسان أعدائه { وقالوا نحن أكثر أموالا و أولاداً وما نحن بمعذبين } فرد الله عليهم { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ثم يشعرهم بأن الكثرة التي يتبخترون بها لا خير فيها { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من آمن وعمل صالحاً } وفي قبال ذم الكثرة غالباً يمتدح الله تعالى ( القليل ) الذين هم أجدى نفعاً ولأن أتباع الحق هم ( القليل) لذا كانت الأكثرية أسيرة الهوى يقول سبحانه وتعالى { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين } وقال عز وجل { اعملوا آل داوود شكراً وقليل من عبادي الشكور } وبعد أن دعا نوح قومه إلى الإيمان ألف عام إلا خمسين قال الله عنه { وما آمن معه إلا قليل } !! ختاماً نقول: إننا قد وجدنا أن نهج الدراسات المقارنة مع تجارب ( الآخر ) صديقاً كان أم عدوا يمكن أن يقدم استبصاراً ويلقي اضاءات على أي ظاهرة، ونضع بين يدي القارئ وقفة رقمية هي مقارنة تسليحية بين الجانب العربي والإسرائيلي ؟ فالدبابات العربية تقارب (220) ألف دبابة فيما يمتلك العدو منها 5 آلاف فقط، يمتلك العرب ( 4 ) آلاف طائرة مقاتلة مقابل ( 600 ) يمتلكها العدو، ينفق العرب على عمليات التسلح ما يفوق ( 60 ) مليار دولار في حين يبلغ الأنفاق العسكري الإسرائيلي ( 6 ) مليارات ويصل المجموع العددي للجيوش العربية إلى ( 2.5 ) مليون جندي مقابل ( 200 ) ألف جندي صهيوني ؟. لعل الاحتماء بالصمت هو خير جواب وأفضل تعليق على الأرقام السابقة خصوصاً وأن هناك أصواتا لا تزال تراهن على ( الكثرة ) وبأوداج منفوخة تهدد بزيادة عدد السكان ( القنبلة السكانية ) وقد كان صمت رئيس الوزراء الهندي ( شا ستري) متوافقاً ومعززا لمضمون هذه السطور، فقد دعي الوزير ذات مرة إلى إلقاء خطاب في حفل ( لتحديد النسل ) فوقف أمام الميكرفون صامتاً لمدة دقيقة واحدة ثم جلس دون أن يتفوه بكلمة واحدة ثم خرج وسط دهشة الحاضرين وعندما حاصره الصحفيون بأسئلتهم عن تصرفه ذاك أجابهم قائلاً : كوني والداً لثمانية من الأبناء أجد نفسي غير مؤهل للكلام في هذه المناسبة، بالتأكيد لو كان وزيراً عربياً لسمع الجمهور خطبة عصماء عرمرمية، وصدق غاندي عندما قال: ان الأخلاق الحقيقية هي تلك التصرفات التي تتم بين الإنسان و ذاته .