حري أن يستلهم المسلمون سيرة المصطفى الكريم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على مستوى الالتزام الفردي وعلى مستوى الشأن العام، ولعل من أهم ما تميزت به سيرته العطرة وسيرة خلفائه الراشدين من بعده العناية الفائقة بثقافة المجتمع المدني، فقد أبلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بلاءً حسنا في تأسيس المجتمع المدني، وتكوين الأمة وقيادتها من حال إلى حال ومن طور إلى طور بسياسة حكيمة وتصرفٍ معجز ورؤيةٍ مستشرفة منذ تبدت حكمته البالغة في وضع الحجر الأسود بذلك الحل الخارق الفارق البارع الذي استطاع به أن يجعل الشرف مشاعاً في الأطراف المتنافسة على حيازته وأن يجبرهم بالعقل والمنطق على النزول لحله كيف لا؟! وهو المعروف عندهم جميعاً بالصادق الأمين، وعلى هذا المنوال كانت منطلقاته وغاياته في سيرته كلها، فعلى البر والتقوى ينازل، ومع الحق يدور حيث دار، ولم يُدع لصلةٍ أو بر أو معروف إلا أجاب وأعان وأمر وحث، وما زال صلى الله عليه وسلم يشيد بحلف الفضول، ويؤكد على نجاعته، وأنه الخيار في تأسيس المجتمع المدني الأمثل قائلاً: (لقد شهدت صلحا وفي روايةٍ أخرى حلفاً في دار ابن جدعان لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وما أحبّ أن لي به حمر النعم). حجة الوداع تضمنت مبادئ الإسلام وقيمه ونظمه في الحياة كذلك ما تفتقت عنه عبقريته في تشريع المؤاخاة المؤقتة بين المهاجرين والأنصار لمعالجة مشكلة المجتمع الإسلامي الجديد في مهاجره ثم تأتي براعة تصرفه وبعد نظره في صلح الحديبية الذي وافق فيه على مطالب قريش، وحاورهم برفق وبر وتقدير واحترام حتى انعقد الصلح وتمت المصالحة بأخلاقيات الفرسان وإنسانية العظماء، وعلى الرغم من مشاعر الغبن التي وجدها المسلمون في صياغة الصلح وما تضمنته بعض بنوده وانصرافهم دون الغاية التي جاءوا من أجلها فقد تجلت حكمته فيما ترتب على تلك المصالحة من المكاسب العاجلة والآجلة، وما حدث من آثار عميقة لذلك الصلح والفتوحات المباركة المترتبة عليه تأكيداً لقول الله جل وعلا (والصلح خير). ما كان ذلك ليحدث بعد توفيق الله وإلهامه لنبيه لولا حلمه صلى الله عليه وسلم وبره ونزوعه للإحسان ونزوله للحلول الواقعية المستجيبة للسلم والسلام وسيادة التواصل والتعايش ومآلات النوايا الحسنة وقيم الوفاء بالعهد والالتزام به مهما كانت التبعات والتضحيات تأتي المواقف والأحداث مؤكدة بأن ذلك الصلح درس النبوة في استشراف المستقبل الذي ينبغي أن تتوافر عليه الأمة في العصر الراهن للإفادة من تلك الحكمة النبوية المعجزة في تقدير المصالح والمقاصد والتوازنات مع العناية التامة بالجانب الأخلاقي الذي يعكس الثقة بالنفس والتعامل بالصفاء والنقاء والسمو والرفعة في هذا الاجتماع الإنساني المدني النبيل. هذه نماذج موجزة عن تأسيس المصطفى صلى الله عليه وسلم مجتمعاً مدنياً غير مسبوق، والحقيقة أن ملامحه منذُ البعثة وما صاحبها من خطابٍ أدبي فكري بلغ درجة الإعجاز في بيانه وبلاغته وانتهج أسلوب الحوار الراقي والتفكير في قضايا الوجود والحياة والاجتماع البشري وتاريخه وما تبع ذلك من معالجات لمواقف قريش وصلف صناديدها في تقبل الرسالة والدخول في الإسلام أو السماح له بنشره إلى أن أجبرته على الخروج من مكة فهاجر إلى المدينةالمنورة ومنذ وطئت قدماه صلى الله عليه وسلم أرضها الطيبة شرع في تكوين المجتمع المدني من خلال مؤسساته الدينية والمدنية المتمثلة في بناء مسجد قباء ومسجده الشريف وما تلا ذلك من تشريعات ونظم تعليمية وتربوية واقتصادية وسياسية أقامت كيان الدولة والوطن وأنشأت العلاقات الداخلية والخارجية وحررت المعاهدات والمراسلات وقامت بإرسال الوفود واستقبالها، ومن اللطائف الدالة على تكوين المجتمع المدني كونه صلى الله عليه وسلم غير اسم المدينة من يثرب؛ اسمها القديم إلى المدينة ونهى أن تسمى يثرب وفي هذا بالغ الدلالة على أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً مدنياً في أسلوب حياته وفي أنظمته وتشريعاته وعلى هذا المنوال كان المصطفى الكريم يؤسس المجتمع المدني ويعزز فكرته وتطبيقاته في شتى الميادين والمجالات حتى غدا على أكمل وجه وأتم صورة متوجاً بفتح مكةالمكرمة: (مضت العداوة وانقضت أسبابها ودعت أواصر بيننا وحلوم وعليك من علم المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم أعطاك بعد محبةٍ برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم) كذلك حجة الوداع فقد تضمنت مبادئ الإسلام وقيمه ونظمه في الحياة والأحياء في إطار الحقوق والواجبات؛ حقوق الإنسان بعامة وحقوق المرأة بخاصة وربط فاعلية المسلمين الحضارية بالزمن والأخلاقيات الإنسانية السامية، وخطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع زاخرة بقيم المجتمع المدني وتشريعاته ونظمه. إن الدارس للسيرة العطرة يقف على تكوين المجتمع المدني في أكمل صورة وعلى أفضل مثال؛ تكوينه على الإيمان والعلم والمعرفة وعلى قيم التسامح والتعاون والتكافل والتعايش السلمي المؤسس على الحب والرحمة ابتداءً، وقيم الحق والخير والجمال، وعلى الرغم مما حدث بعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى من أحداث كادت تفرق الأمة وتعيدها لحالة التمزق والشتات والعداء والاقتتال إلا أن رسوخ مفاهيم المجتمع المدني وسيادة التشريعات والنظم المتكاملة كان هو الخيار الأمثل الذي استطاع خليفة المصطفى بقوة الثقافة أن يقف في وجه تلك الأحداث وأن يثبت قواعد العدالة وسيادة النظام العام بطابعه المدني الإنساني ثم انتشر الإسلام وعمت الرحمة وشاع السلام ونماذج هذا المجتمع في السيرة النبوية العطرة وفي تاريخ الأمة الإسلامية الحضاري من الكثرة بمكان. [email protected]