من قال ان الخطايا تقترفنا سهوا؟ و التراتيل التي نتلوها كي ينصهر الذنب فنرميه أمامنا ليكون التيار الذي نسبح ضده؟! تلك هي لعبتنا، نصنع من ماضينا وحشا يركض وراءنا و ننطلق لنحمي ملامح الجدية على وجوهنا التي لا يكدرها سوى الضحكاتِ التي تغادر أقفاصها حين تتقابل عيونُنا في أزقة الطرق المتجمدة على امتداد الجزء المشترك من ذاكرتينا. يوما ما سنكبر، ربما غدا الذي أتمنى ألا يحلّ بسرعة لأنني الآن أنكبّ، وعادة ما يستغرق ذلك وقتا، أضيعه في قراءة العبارات المتدلية من بين أقمشة ثوبك الذي نزعتِه للتو. يصير فراقنا مثل سحرٍ بطلَ تأثيرُه حينما نتلاقى و نكون في نفس الجانب من سياج أسلاك شائكة لا ينجح في الامتداد بين جسدينا إلا لو أخذتنا غفوة خفيفة من شدة التعب. إن ما تراءى لكِ كقوة وضّاءة استفدنا من إشعاعها، لم يكن سوى الكلمات التي تلقنينني إياها، كلمة كلمة. وأنا، ذلك الشاعر المتلهف لأن يرى الدهشةَ مرتسمةً على جدران الحارة المحفوفة بحروفه المتحرقة، اخترت أن أبقى كفكرةٍ شاردةٍ تقبضين على أطرافها بقوة كي لا تفلت. ها هو الوقت المستقطع من حسابينا ينفرش و يكبر لتمسح ظلالُه مدينةً حاولنا مرة أن نكتبها في دفاترنا و نتحوط بها عن الوجع. قفي عند الماضي و لكن لا يكن ذلك لمدة طويلة، ثم عودي إليّ فأنا باقٍ هنا لصقك.. و لن أتزحزح. لا أعرف كيف يجب أن أبدأ في تقطيع المرايا بحيث أجعلها حادةَ الأطراف و مصقولة. الألقُ المصاحبُ للترانيم، تلك الموروثة عن حرقةٍ أراقتها السنين على أتربة المزارع، يتوهج خلف ظلالنا ليكسو خيالاتِنا فيجعل ما نراه منها هو فقط الحقيقةَ عاريةً. لو لم ندّعِ يوما أننا شراعان لسفينة واحدة، لكان لنا ربما أن نلتفت الآن و نغسل ماء البحر بوجهينا، لكن ذلك لم يعد ممكنا. الماء المتهدل من الحنفية نقطة نقطة يُسمعنا كل ما نقله الهواءُ الرطبُ من كلماتنا التي دحرجناها باتجاه المجهول. المعنى الوحيد الذي تحمله فكرة أن نطفو بجسدينا قليلا هو أننا احتفظنا و الى الأبد بقدرتنا على التظاهر بالنسيان، دون أن نجعل الماضي يستطيع الإكتمال في أقبية أحدنا عندما يبتعد عن الآخر، لذلك قررنا أن نفترق و نسلب من محنتنا نشوتها كلما تحررتء منا، و نزعم أن اليد التي كتبتنا في الدفتر اختارت لنا الصفحةَ الأولى، لاغير. أمسيةٌ، هي تلك النظرةُ التي تمرق مَعبَرا يتناثر على جانبيه ركامٌ من قصاصات الورق و ينتفخ جوفُه بحكايات ما فتئت تغادرني و لا تحط رحالَها إلا عندما تعود إليّ بعد أن تجعل منكِ محطتها الأولى و ما قبل الأخيرة. أعلم ما تريدين قوله في لحظةٍ ليس بها متسع لأشجارك المتورقة في صيفي. مجساتُك لا تخطئ حين يتعلق الأمر بالحفريات التي ستتركها أظافرُ الكلام على ملامح وجهي متى ما انطلقت و نالت حريتها التي لم تنعم بها منذ زمن بعيد. هكذا يعيد الوجدُ تشكيل خارطة جسده بعد أن نكون قد ظننا أنه أستسلم ولاذ بوداعة النسيان لتحميه من الرياح و الرصاصات الطائشة. تعلمنا منه أن نتوثب في انتظار القطار الذي لا يجيء إلا محملا بخطايانا مرة أخرى، يصفر ليعلن أن الوقت قد حان لندفع حسابَ الدقائق الهاربة من حياتينا و كأننا لا تكفينا الدهشة التي خيمت على دموعنا عندما اكتشفنا أن الفرصة للتراجع قد فاتت، رغم أن ذلك ليس ما يحصل عادة. في غمرة الندم اللذيذ لا يتبقى سوى شعورٍ وحيد و أنيق: أن نعيد الكَرة مرة أخرى كي نمتلك فرصةً جديدة للندم، أن نلقي عن كواهلنا الأسئلة التي طاردناها حتى امتلأت بالخوف و ضجت بالحنين، أن نصنع من هذا التردد رمحا نغرزه في فداحة الشك بأن تلك التجربة ذاتها قد مزقت قميص المعنى و ابتكرت نفسها من جديد. أنا و أنت الأسرى الوحيدون في زنزانة خيّطنا بابها بتهور في لحظة نشتاقها الآن، ولم نعد قادرين على الخروج. مقطع من نص طويل