إذا كانت موازنة العام 2004 لم تعجب معظم اركان الحكومة بمن فيهم مهندسها وزير المالية فؤاد السنيورة التي اعتبرها أقل الممكن، وهي لم تعجب أيضا غالبية النواب حتى لا نقول أكثرهم وهم نالوا منها ومن الحكومة نقدا وتهشيما، حتى انها نالت أكبر عدد من الرافضين في تاريخ الموازنات، إلا انها اقرت وبغالبية 65 صوتا. وهذه الموازنة لم تعجب القوى العاملة الحاضرة بخجل لم تعجب العديد من المؤسسات العامة والمصالح المستقلة، وهي لا تلبي كل احتياجات التغطية الاجتماعية الذي كان للدولة في إطار الضمان الاجتماعي والضمانات الأخرى وكذلك الأمر بالنسبة للهيئات الاقتصادية التي حذرت من تراجع النشاط الاقتصادي وحركة القطاع الخاص إذا لم تقم الدولة بسلسلة اجراءات اصلاحية عبر مشاريع قوانين وفقا لما تعهدت به الحكومة بل الدولة أمام باريس 2. فالبلاد تعاني الركود والمؤسسات الخاصة تواجه يوميا اجراءات الصرف الجماعي والفردي، وهي تتهددها مخاطر الاقفال او تخفيف النشاط او عمليات الصرف. ومع ذلك قلة هم الذين تناولوا الاثار الاجتماعية والمعيشية لسياسات المناكفات السياسية على الطبقة العاملة وهموم المواطنين. يضاف الى ذلك ان مناقشات هذه الموازنة جاءت خلوا من إضافات أساسية إلا في ما ندر لبعض النواب الذين يتناولون الأمر بتقنية عالية وأصبحوا تقريبا يرددون كلامهم في كل مناسبة، إلا ان الغائب الأكبر هو القرار السياسي، وهنا يطرح السؤال الأساسي إذا كانت مناقشات هذه الموازنة بأرقامها وعجزها ومضمونها ونتائجها المرتقبة التي تجهض الأداء الاقتصادي فلمن وضعت هذه الموازنة؟ ومن وضعها ومن المسؤول عن نتائجها هل الحكومة وحدها أم الرئاسات وخلافاتها؟ الأسئلة المشروعة كثيرة، إلا ان الأمر الأساسي يجب ان يخرج عن نطاق الموازنة ليلامس القضايا الانتاجية العامة والمؤسسات التي تحمل الدولة أعباء سنوية تفوق ال300 مليون دولار، وأبرزها مؤسسة كهرباء لبنان التي يتحدث عنها رئيس الجمهورية اميل لحود بأنها ستكون محطته الاصلاحية الثانية بعد الهاتف الخلوي. وهو أمر صعب المنال لأن وضع مؤسسة الكهرباء يعاني ديونا تفوق المليار و200 مليون دولار إضافة الى عجوزات تراكمية توازي مبلغ الدين وتفيض عنه. ويكاد الوزير السابق والنائب الحالي جورج افرام الوحيد الذي تناول موضوعين أساسيين يكبران حجم الاقتصاد ويعززان النمو في حال دعمها ومعالجتها هما موضوع الكهرباء التي كلفت الدولة حتى الآن حوالى العشرة مليارات دولار حسب افرام وهي كانت وحدها أحد مصادر تفاقم الدين. وطبيعي عندما يتحدث الصناعي جورج افرام عن الكهرباء ان يتناول علاقتها بكلفة الصناعة المرتفعة والعائدة في جزء منها الى الكهرباء. وتبقى الخطورة في كلام الوزير السابق في حجم الانفاق على الكهرباء وحجم الأعباء على الصناعة التي يفترض ان تتحول نقطة اهتمام أساسية جديرة بالدرس والتمحيص لا ان تواجه بنقاش سطحي يشابه اهمال خطة إنماء الصناعة التي خرجت من التداول فور خروج صاحبها من الوزارة. صحيح ان العديد من النواب تناولوا القطاعات الانتاجية وضرورة التوجه الى الصناعة والزراعة إلا ان قليلا منها تناول تشريح موضوعي الكهرباء بالطريقة التي سردها بعض النواب وتحديدا الوزير افرام، ويستأهل الشق الاقتصادي الصناعي والكهربائي وقفة نقاش من الصناعيين قبل المسؤولين للمتابعة ومحاولة التحسين هذا إذا توافرت النوايا للتحسين. ان وزير المالية فؤاد السنيورة يقاتل وحده من أجل عصر النفقات وزيادة الايرادات، فإذا به مضطر للدفاع عن موازنة وضعها الأمر الواقع السياسي من دون لمسة من وزير المالية الذي اكتفى بتحديد النفقات المرتفعة عن العام 2003 وبتقدير الايرادات التي هي دون المحقق للعام 2003، ويرصد كلفة خدمة الدين العام المقدر بأكثر من العام الماضي وهي أقل من المحقق فعلا إذ قدرت بحوالى 4000 مليار ليرة وأتت بحدود 870 مليارا في حين ان المقدر للعام الحالي هو 4300 مليار ليرة، ولا أحد يستطيع التكهن بحقيقة الرقم الذي سيحقق وان كان حكما سيأتي أقل من المحقق خلال العام 2003 بسبب مفاعيل باريس 2 على أسعار الفوائد اقله بالنسبة للديون الخارجية التي أتت كمساهمات من الدول المانحة ومن المصارف اللبنانية ومصرف لبنان بفائدة صفر حتى خمسة في المئة. المهم في الموضوع ان الكلام الفضائحي الذي صدر عن بعض النواب لا سيما النائب افرام بالنسبة للكهرباء لجهة الكلفة التي أشار اليها بحدود 450 مليون دولار، بدلا من عشرة مليارات دولار، كان من شأنها ان تؤمن مجموعتين وتؤمن الصيانة والتشغيل للمعامل وتعطي الكهرباء 24 ساعة للمواطنين، وهو بيت القصيد. إضافة الى إنماء القطاع الصناعي والزراعي وهو أمر يحتاج بالفعل الى متابعة لأن تخصيص الكهرباء لا يمكن ان يتم في ظل العجز السنوي المقدر ب300 مليار ليرة لهذه السنة بالرغم من جهود إدارة الكهرباء للخروج بموازنة متوازنة بعد رفع الجباية بنسبة 40 في المئة تقريبا، هذا مع الإشارة الى ان أسعار النفط مستمرة بالارتفاع ولا سيطرة على هذا العنصر الذي يشكل أكثر من 65 في المئة من اجمالي النفقات مع الطاقة المشتراة. من هنا لن تجد الكهرباء شريكا استراتيجيا يدفع قرشا واحدا لأن القطاع الخاسر غير قابل للخصخصة.