فضائيات تتسابق في ضخ نشرات حافلة بالأخبار الملتهبة، ملبدة بالأدخنة، ملطخة ببقع الدم، مكتظة بالأنقاض، بالإطارات المطاطية المشتعلة، بالسيارات المحترقة، بالشظايا المتناثرة. إنها الفوضى تسعى على قدمين!! هذا هو زاد المشاهد العربي اليومي المألوف منذ زمن بعيد. لكن مائدة العنف هذه قد امتدت كأخطبوط إلى مساحات أوسع هذه الأيام. لقطة أخرى لا يكتمل المشهد بدونها.. لقطة للحناجر الفولاذية الصاخبة بالخطب المدوية التي تهيج العواطف أو تسكب الزيت على النار، فيكتوي بها الناس البسطاء والأبرياء. البسطاء المضحوك عليهم، والأبرياء الذين "لا في العير ولا في النفير". يذكرني (بعض) أصحاب هذه الحناجر بشخصية (بانورج) التي أشرت إليها في مقال سابق نقلا عن الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، وهي الشخصية التي صورها (رابليه) في أحد أعماله الروائية على النحو التالي: يهيج البحر تحت وقع عاصفة عنيفة، فيصارع كل فرد موجود على ظهر السفينة لإنقاذها، الجميع عدا (بانورج) الذي يشله الخوف عن الحركة ويظل يُوَهءوِه باكيا، لكنه ما أن تهدأ العاصفة حتى تعود إليه شجاعته المزيفة فيندفع في تأنيب الجميع على كسلهم وتقاعسهم في أداء الواجب!! والمتابع لتلك المشاهد اليومية التي تضخها الفضائيات سيعثر على نماذج كثيرة من هذه الشخصية، وسيكتشف أن كثيرا من أصحاب تلك الحناجر الملعلعة، والمنادية بالويل والثبور وعظائم الأمور يصدق عليها قول الشاعر: ==1== شجاع إذا ما أمكنتني فرصة ==0== ==0==فإن لم تكن لي فرصة فجبان==2== كانت تلك الحناجر لا تجرؤ من قبل على الهمس، عندما كان المرء يؤاخذ حتى على النكتة، فلما أمكنتها الفرصة صارت تلعلع متلاعبة بعواطف الناس البسطاء الذين يؤخذون بالبيان قبل البرهان، وباللافتات قبل استقراء النيات. وحين نرى مثل هذه الشخصية المثيرة للضحك على القنوات الفضائية العربية لا نملك إلا أن نتساءل: أين كان (بانورج) مختبئا من قبل؟ أما المفارقة العجيبة فهي أن مهندسي العنتريات يخرجون في نهاية المطاف من فم الطوفان الكبير دون أن يصابوا بخدش واحد، أو تتسخ ثيابهم، يخرجون من كل تلك الفوضى بكامل أناقتهم. في حين يذهب ضحيتها الأبرياء الذين يغرمون ولا يغنمون، هؤلاء هم وقود الفوضى، والمتضررون جسديا ونفسيا واقتصاديا إذا ما قدر لهم البقاء أحياء! ستقودنا هذه الملاحظة إلى الحديث عن الشجاعة والشجعان، وعن أحد رموز الشجاعة في تاريخنا العربي. فقد طفت على سطح الذاكرة، ذات مرة، وأنا أشاهد أحد خطباء الساحات من ذوي الحناجر الفولاذية. قصيدة الشاعر جاسم الصحيح "عنترة في الأسر". وهي القصيدة الفائزة بجائزة البابطين للإبداع الشعري في دورتها السادسة المقامة في بيروت عام 1998م. سوف أعتذر لشاعرنا المبدع الصحيح وأخرج النص من سياقه، وأنحرف به عن نوايا المؤلف الحسنة، ودوافعه النبيلة الحالمة التي جاءت "من صميم الوهم.. متأبطة زهو الأساطير" كما يعبر الصحيح. سأتجاوز توظيفه للرمز ممثلا بالفارس العبسي في أسره المتخيل، ذلك التوظيف الفني الذكي، وسأخرج النص من كل إسقاطاته الفنية لأقول: ليت عنترة هذه الأيام قد بقي في الأسر!! فقد انطلق أخيرا من قمقمه وانتشر مجموعة من العناتر ومن العنتريات المشحونة بالعواطف والانفعالات والمواقف المرتجلة. لقد خرج من الأسر ولكن ليس بالصيغة أو المعنى الذي حلم به الشاعر أو تمناه. هكذا وجدنا أنفسنا ونحن ندخل الألفية الثالثة بأمس الحاجة إلى قصيدة ترثي العقل المرتهن بصخب العنتريات قبل أن ترثي الشجاعة المكبلة. أجل! نحن بحاجة إلى قصيدة ترثي حكمة زهير بن أبي سلمى الأسيرة. فالرأي، كما يقول أبو الطيب المتنبي، قبل شجاعة الشجعان.. هو أول وهي المحل الثاني/ لولا العقول لكان أدنى ضيغم/ أدنى إلى شرف من الإنسان. حتى عنترة نفسه لم يكن متهورا أو مندفعا بلا عقل أو روية. فقد نقل عنه أنه قال: "كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما، ولا أدخل موضعا قبل أن أرى لي فيه مخرجا". هنا يجتمع الرأي والشجاعة: ==1== فإذا هما اجتمعا لنفس مرة==0== ==0== بلغت من العلياء كل مكان==2== ولعل هذا يفسر لنا كيف استطاع عنترة أن يكسب معاركه، وأن ينفد بجلده رغم الحروب الطاحنة والمعارك الضارية التي خاضها ليبلغ التسعين. ولعل هذا يفسر لنا كيف انقرض الديناصور عنترة الكائنات الحية؟ فالمعروف أن وزن أضخم ديناصور يساوي عشرة أضعاف وزن فيل كامل النمو. ومع ذلك فقد انقرض. ربما لأن حجم "عقله" لم يكن متلائما مع قوته الضاربة وضخامة جسمه وطول "ذيله"! ويمكن لهذه الفرضية أن تضاف إلى بقية الفرضيات التي وضعها الباحثون عن أسباب انقراض عنترة العصر الطباشيري، ومن تلك الأسباب المحتملة تغير الظروف المناخية أو شح الطعام الناجم عن تلك الظروف، أو اصطدام كوكب آخر بالأرض إلى آخر قائمة الفرضيات. ترى هل يمكننا بعد كل هذه المقدمات أن نضيف إلى تعريف ابن منظور للشجاعة باعتبارها "شدة القلب في البأس" تعريفاً آخر فنقول: إن الشجاعة في هذا الزمن المضطرب هي القدرة على نقد الذات، والاعتراف بالأخطاء، والتحكم بالعواطف والانفعالات، والقدرة على استخدام العقول، واستثمار طاقاتها في التخطيط والبناء والتعمير، والأخذ بأسباب التنمية، والبحث عن وسائل الاستقرار؟.. ربما.